بثينة رشيد بثينة رشيد

إلى المخيم.. عاد الأحرار شهداء

مخيم اليرموك، هذا المخيم الأنيق والمتعب في آن، يستضيفك وكأنك في بيتك، الناس فيه أليفون لحد الدهشة.. فلا تشعر عندما ترتاده بالغربة أو بالدهشة.. فالحارات والأزقة والمحلات والمطاعم فيه عادية.. يمكنك أن تشاهد مثلها في أي مدينة بسيطة وأكثر من عادية.. حتى الحدائق والمدارس ومقاهي الانترنيت تمر من أمامها فلا تتفوه لا بــ«واو» أو بـ«ياي».

الذي يوقفك ويثير أسئلتك واستغرابك فيه هم الناس.. أنواره التي لا تنام.. وشوق الروح فيه إلى الحركة، وكأن هناك شيء ما ألفوه ثم فقدوه.. أو هناك سر ما لفظوه ثم طوقوه..  فهذه الجماهير الغفيرة والسيارات الكثيرة، وهذا الضجيج المتعالي وذلك الصخب، يشعرانك وكأنك في وسط مظاهرة أو مسيرة احتجاج.. حتى الوجوه تراها مستنفرة متيقظة، والشفاه مستعدة للكلام أو للصراخ، أما العيون فتراها وقد استولى عليها الذهول وكأن صور كثيرة حشدتها الذكرى قد غرقت في سوادها؛ و لم تبق على شط بياضها سوى الوجوم.. فلا وجوههم، ولا عقولهم عرفت كيف سارت بهم الأمور، وأوصلتهم إلى أيام أصبحوا فيها خيالات تسير لمجرد  قضاء الحاجيات لا أكثر!! فحرارة النقاش السياسي، ومواعيد الحرية وانتظار موكب شهداء، وسيارات تهرع مكبراتها لنداء تجمع  في ذكرى يوم الأرض ووعد بلفور والنكبة والتقسيم، كلها لم تجد لها براحاً، فسكن مداها وانقطع..

كانت أحلامهم عصية على الاختراق، تلفظ الأسى إذا دارت على النفوس الدوائر. كانت تلهو وتعبر عن نفسها برسومات تملأ حيطان المخيم عن البرتقال والأسلاك الشائكة وعن الزيتون، أما العبارات والشعارات فقد كانت تتسابق لشد الأنظار والأعصاب، والأغاني كذلك، كنت تسمعها تعلن نشيدها ليشحذ القلوب نضرةً وصلابة.. حتى الحقول كانت تستمد من تلك الأحلام خضرتها وبراعمها، فما الذي شحنها أو استطاع أن يغزوها بالألم والوهن، وسرق من شوقها ذلك الأمل العصي؟؟ من أخذ من المخيم حتى الشجن!؟

لقد أطلق أهالي اليرموك «كلمة» «المخيم» على حيهم رغم أنه لم تنتصب فيه خيمة واحدة، ربما لأن هذه الكلمة قد عنت لهم الكثير من المعاني، وكان الإصرار عليها يمدهم بمشاعر التحدي مع الحسرة..كانت زاداً روحياً يضيء أكثر من أربعمائة ألف شمعة..!!

إلا أن الليل طال، والرؤيا بدأت تخبو، والشوق تعب من اللهفة.. أما نجوم المخيم وأحبته من الشهداء فقد ركنوا أشعتهم في قلب السماء ينتظرون.. وينتظرون..

لقد كانوا كثراً.. وكانوا النشيد والنغم الذي  يتحرق في الذكرى،  ليلهبها ويبقي في رحمها عبرة..

ستعود ذكراهم اليوم، سيحضنها مخيمهم، ويسأل البعض ما الداعي لاستعادة الآلام والحسرة؟ ما الداعي لنبش القبور واسترجاع ما قد أصبح ذكرى؟ ستجيبهم عيون أبنائهم وعروش عظامهم الحرة، وسيردون على الأسئلة بالأسئلة.. وستنضم إليهم فلسطين بطرحتها.. فلقد استشهدوا من أجلها، فلمَ إلى الآن ما زالت على حالها محتلة!! هل تيتمت قضيتهم في الشتات؟ أو هل يبست في منابعهم الذكرى؟ فأين الماء يوقظها شلالاً؟  وأين الهواء يشبعها عطراً..أم  أن الثقة مازالت نابضة بأن يوما واحدا بمقدوره أن يعيد الروح لأنفاسها، ويكون اليوم بألف يوم وبألف خطوة. وما صمتهم إلا سكوت على الوجع، وكلام على الجمر ينتظر.. فقد خرج المخيم كعادته في وقت الشدة، وكان له مع الوفاء والعشق ومع نجومه من الشهداء «أحبته» حبات رز ومواعيد.

آخر تعديل على الإثنين, 05 كانون1/ديسمبر 2016 23:09