انتهازيو الأزمات

كما للموت تجّاره، وللجثث بائعوها، وللحرب سماسرة يبيعون السلاح والمتاريس، ونحن في أزمتنا، وفي انتقالنا التاريخي نحو حلمنا في وطن نظيف، وفي ألمنا المختار بأبجدية جديدة.. ينتهزنا الكثيرون بلا هوادة، ويسرعون في ملء جيوبهم، وكأنهم معنا في قلقنا المشروع من تغيرات تجتاحنا.. هم أيضاً لا ينامون لكن من أجل ألا يفوت عليهم مثقال ليرة من فساد.

اليوم، ونحن نلم أجساد صغارنا المرتعشين من أحلامهم، من خوفهم المنسوخ عن وجوهنا الغامضة، وعيوننا التي تفضح القلق من القادم المبهم، ونحن نمسك دفة آرائنا خشية ألا نصيب في زحمة الشتات، وفي خطوة واقفة، وفي ريح حمراء.

الليلة ونحن نعود أدراجنا ملتفتين خشية موت صامت، وشوارع تنام قبل (الصيصان)، وخطوات مسرعة للعودة إلى التلفزيون الذي يتنازعنا، تكورنا على الأرائك القاسية، وعاداتنا الجديدة.. وجبات سريعة في البيت، فراغ أسري، أسرة زوجية باردة، انتظار صباح جديد على خبر لا ننام عليه، أحلام يقظة، مشاوير مختصرة، قطيعة مع الزيارات والنكات والضحكات العالية.

نيسان على غير عادته، سوى (العوجة) دليل على بدايته ونهايته، وأيامه مسروقة من كل الفصول، نهار سديمي، مساء ماطر، غبار سموم، ليل عاصف، وأحياناً فصول السنة في يوم واحد..أو أنها روحنا المضطربة على خلاص.

مع كل حالتنا، وفي غمرة انتقالنا إلى أيامنا الجديدة، وفي تسارع الأحداث التي تعصف بكياننا، والتغيرات التي نحلُمها.. مع كل حالتنا يحاول الانتهازيون إعادتنا إلى صدمة الأمس الفاسد، وعلى شاكلة الفجور الوقح، كأننا ما زلنا في الأمس الذي طالما انتقدناه، وزكمت أنوفنا رائحة الفساد الذي كان أهم صفاته.

اليوم، وفي هذا الوقت الفاصل بين الأمس والغد يقترف الانتهازيون جريمة اختطاف من الدرجة الأولى، اختطاف ذاكرتنا الجديدة، الانتهازيون يطلون وعلى الملأ برؤوسهم السوداء، وشرههم لتعبئة كروش تضخمت من أمسنا الذي نكره.

على مساحة الوطن يعود تجار البناء إلى أحلى عصورهم، يهرعون إلى أيامهم الخوالي لكن دون وسطاء ومرتشين، لا يحتاجون الآن إلى إكرامية رئيس البلدية وشرطيها، رئيس المكتب الفني أو لجان تفتيش المحافظات، ولا إلى شراء الذمم المتعفنة التي ساهمت في زيادة قبح بلادنا العمراني، ورسمت خارطة بؤس تحيط بأبنيتهم الفخمة.

أزمة جديدة يخلقها الانتهازيون في غمرة أزمة الوطن، الأسمنت ومشتقاته، والحديد بأنواعه دخل إلى السوق السوداء، و(البلوك) خرج من ورطته، وصار ذهب الفترة الآسنة، وعلى طول المتحلق الجنوبي سيارات الشحن الكبيرة أرتال من البلوك القادم من المحافظات في غمرة انتهاز المرحلة؟

بين هؤلاء الفاسدين مواطن يبني ما تبقى من مخالفته الأولى، مطبخ واسع، حمّام عربي، تواليت إفرنجي لأمه العجوز التي أنهكها (الديسك) والزمن، غرفة لطالب البكالوريا الضائع، غرفتين لولد أرهقته المراهقة ويجب تأهيله على الأقل جنسياً.

أما كبار المتعهدين الذين بنوا ثرواتهم من تجارة البناء فيبنون مشاريع الحالمين بشقة على العظم، وكسوة من قرض طويل الأمد، ويبتسمون من زمنهم الجميل وأقدارهم السعيدة.. ويتحدثون بأفواه بأسنان لامعة عن حظهم الكبير، وأيام عزهم التي تباركها السماء.

يعود الانتهازيون اليوم دون خوف وحياء، ويغيب من كان يترصدهم ويحميهم، ومن يخترق القانون من أجل (كمشة) ليرات.. من أجل الوطن الذي تعّرش الدوالي لأجله قبل وقتها أشير إلى هؤلاء، وإلى من كان وراءهم من صغار الفاسدين ومن كبار المفسدين.. هؤلاء يجب أن يحاسبوا اليوم لا أن تسطر لهم الضبوط التي ستنتهي إلى الأرشيف، وأن يحاكموا اليوم ليس لأنهم يخالفون بل لأنهم ينتهزون الوطن في أزمته.