مطبات: المدينة العائمة
بالتأكيد لا أريد الحديث عن (البندقية) المدينة الإيطالية الوحيدة التي تعوم على الماء في كوكبنا، ولكنني فجأة شعرت بأنني أسكنها وأمشي في شوارعها، ولكن ليس بزورق (جندول) صغير يقلني إلى ما أريد، ولكن بحذائي فقط أعبر مدينتي الممتلئة بالبشر والسيارات، ولا مجال لك إلا أن تذهب كل مشاوريك مشياً على الأقدام.
هنا الشام.. دمشق التي لا تشبه مدينة في العالم، ببساطتها وفوضاها، وزحامها الدافئ، وبشرها الطيبين، ووجوههم الدمثة، وحتى غرباء الشام لا تمضي أيام على وجودهم بين جدرانها حتى يأخذون طباعها وطباع أهلها فيتحولون إلى كائنات رائعة واضحة.. هكذا كانت مدينتي التي تعوم اليوم بمظاهر البؤس والزحمة والوجوه الغريبة.. هل فقدت مدينة الدفء قدرتها على ترويض الغرباء، وفقد أهلها سحناتهم البسيطة؟.
في الباص الأخضر أو الأزرق أو الأحمر ثمة بشر مكومون على بعض، وفي ساعة الذروة رؤوس محشورة وأخرى خارج أبواب الحافلات، ونسوة وطالبات جامعيات يرمين بأنفسهن من أجل الوصول إلى بيوتهم أو قاعات درسهن، ولا أحد يحيد عن الباب المغلق بالأجساد.
سائق (التكسي) لا يعرف سوى لغة المئات والآلاف، وكل الطرق لديه صعبة وغير سالكة، وحديثه الوحيد هو عن العودة فارغاً والانتظار على الحواجز لساعات وهذا ثمنه من جيب المواطن، وحديثه الوحيد عن غلاء البنزين، والمخالفات الظالمة، والشرطة المرتشين، وأن السيارة التي يقودها ليست ملكاً بل هو مجرد سائق بالكاد يعيل أطفاله ويدفع آجار بيته الغالي.. وهذا ما أدى بالكثيرين إلى اختيار أحذيتهم للوصول إلى أماكن عملهم أو مراجعة دوائر الدولة.
باب السريجة أشهر أسواق دمشق الشعبية يعوم بالبضاعة والزبائن، أسعار مشطوبة وفق ارتفاع أسعار الدولار حتى تلك التي من مصدر محلي، وأما الأسماك المجففة المستوردة، والتمر، ولحم الجاموس، وجبنة (لا فاش كيري)، والمرتديلا، والمعكرونة والزيوت والسمون وكل ما تستورد مواده الأولية فقد ارتفع بشكل جنوني، وهذا كله يدفعه المواطن الذي لا يشتكي، ولكنه (يحوقل)، ويستعيذ بالله، ويدعو للبلد بالفرج القريب.
على الرصيف بشر يبيعون ويشترون، ويمرون بالكاد، فيما أجسادهم تحتك بوحشية، وكل هذا الطوفان يتلاشى عند أول لحظات الغروب، وكأن المدينة ابتلعت بشرها وأكلتهم، وهاهم يسرعون إلى بيوتهم التي تعج بحكايات الموت والخوف والدعوات.