من الذاكرة:فترة الترشيح

من الذاكرة:فترة الترشيح

ما سمعت مرة صوت الغالية فيروز وهي تصدح رائعة سعيد عقل «بردى»:

«مرّ بي يا واعداً وعدا

مثلما النسمة من بردى

تحمل العمر... تبدده

آه... ما أطيبه بددا

أنا حبي دمعة هجرت

إن تعد لي.. أشعلت بردى»

إلا وفاض في الفؤاد الحنين وحلق بي الخيال بعيداً موغلاً في دروب حياة مديدة، لأسترجع ذكريات عزت، وأستعيد تنسم عبق زمن سكن ملء الرئتين والوجدان... وبخاصة ذكريات مرحلة البدايات حين أخذ الوعي الاشتراكي يتفتح في ذهني وفي قلبي.

فشدني إلى التزام قضية الكادحين من العمال والفلاحين ودفعني إلى تقديم طلب انتساب إلى حزب الخبز والسلم والحرية.. وقد دعم طلب الانتساب تزكية رفيقين عزيزين وفق تقاليد الحزب التنظيمية وقتها، والتي كانت تحث الرفاق على العمل بين صفوف العمال والطلاب والفلاحين، وبشكل أساسي بين الأشخاص الذي يتصفون بالجرأة والحيوية والجدية والسمعة الحسنة- زمن النهوض والمد الوطني الرائع.. وكان لابد من فترة تسبق الموافقة على الانضمام إلى التنظيم، وهي فترة الترشيح (الاختبار) التي تقوم عندها المنظمة المعنية، سواء أكانت منظمة حي أو معمل أو مهنية أو طلابية أو ريفية، بمتابعة المرشحين من خلال مهمات يكلفون بها ليثبتوا من خلالها جدارتهم بحمل لقب شيوعي، ومن هذه المهمات استلام مطبوعات حزبية وسياسية ونقلها من موقع إلى آخر، وتوزيع المنشورات والبيانات، والاشتراك بالمظاهرات الطيارة.. وهي بتعريف مختصر تلك المظاهرات التي يعد لها بكل الدقة والدراية، فيحدد زمانها ومكانها بحيث تؤدي الغاية المتوخاة منها.. فيجري تبليغ الرفاق المكلفين بها بأهم الواجبات المطلوبة وأساليب التصرف تجاه كل طارئ.. أما مكانها فهو في التحديد ضمن الأماكن المزدحمة بالناس وفي رأسها الأسواق العامة وتقاطع الشوارع، وأكثرها جرى في سوق الحميدية الذي شهدت أرجاؤه العديد من الاشتباكات مع عناصر الشرطة.

واستذكر اليوم المظاهرة الطيارة التي كلفت بالمشاركة فيها، وجرت في سوق «المسكية» قريبأً من الجامع الأموي وبمناسبة عيد الجلاء.. وفي السابع عشر من نيسان عام 1953 كنت بين الرفاق الذين انتشروا في السوق وكأنهم متسوقون يقصدون محلات البيع، وعند اللحظة المحددة دوى صوت الرفيق الخياط عبد الكريم اللو بهتاف قوي ردده الرفاق وهم يندفعون للالتفاف حوله، وليرفعوا لافتة تحمل شعارات المناسبة.. ووسط توقف الناس ومن ثم تجمهرهم قرب المظاهرة وانخراط بعضهم في صفوفها.. أخذ الناس يتابعون بإعجاب وتأييد واضح لما يجري أمامهم، وهم يشاهدون عشرات الشباب المتحمس يهتفون للحرية والديمقراطية منددين بالحكم الديكتاتوري العسكري.. وممجدين نضال شعبنا وتضحيات أبطاله الميامين وشهدائه الأبرار وفي مقدمتهم البطل يوسف العظمة..

ومع سماع هدير محركات سيارات الشرطة في السوق أعطى الرفيق المسؤول الأمر بتفرق الرفاق لتجنب الاعتقال، وطويت اللافتة وحمل أحد الرفاق عصيها، بينما حملت أنا اللافتة وجربت مبتعداً عن المكان وقد بدأت الشرطة بملاحقة الرفاق، وما هي إلا مسافة قصيرة وفوجئت بيد قوية تمسكني من كتفي وتشدني إلى داخل محل تجاري لبيع الأحذية كي لا أقع بأيدي الشرطة.

إنه صاحب المحل الذي قال لي بعد أن هدأ الوضع:

انطلق في هذا الاتجاه وأشار بيده إلى طريق متفرع عن السوق.. وشكرته بحرارة وانطلقت.. أتعرفون يا أعزائي من هو هذا الوطني الطيب.. إنه بطل سورية في المصارعة الحرة البطل شفيق البغدادي.. ومن يومها ما مررت مرة بالقرب من محله إلا توقفت بكل العرفان بالجميل لأحيي ذكرى ذلك البطل الشهم.