مطبات: سنة بعيدة جداً
ربما نتفق جميعاً على أن سنوات سعادتنا قليلة، وكثر أولئك الذين يجتهدون في كيفية حسابها على السعادة والحزن، والبعض يرى أن الاحتفال بنهاية العام ورأس السنة تقليد لا ينتمي إلى شرقنا الذي يدعو إلى البكاء لخسارة سنة من العمر القصير.
اليوم رأس السنة الحمراء.. السنة الدامية التي وزعت الدموع على السوريين بيتاً وراء بيت، وقرية وراء مدينة... حتى صارت الدموع أهون ما نلقاه، وفي كثير من الأحيان أقصى ما يمكن أن نفعله.
غداً بداية عام جديد، وبالتأكيد سنستيقظ على ألم لا نتمناه، وعلى وقع موال دم طال حتى انقطع النفس، وستبوء بالفشل أمنياتنا التي أضمرناها لقادم مجهول، وهذه السوداوية ليست هوى وأمنية، ولكنها الشهور التي تركت سواداً في قلب لا يأمل بانقضاء الغمة الكبيرة سريعاً، وتبدو مقدمات الأيام الأخيرة تشي بأيام حمراء مقبلة.
نعم كلنا يتمنى نهاية حالمة، وأغلبنا يتمناها صادمة، وأن يفيق في السادسة صباحاً على نهاية سنة دامية وقاسية، وأيام اختلاج مريرة، وقد يشط آخرون بأن لا يسمعوا بآذانهم خبر نهاية الأزمة بل أن يأتيهم هاتف، أو (نكزة) صباحية من زوجة، أو فجأة جارٌ قديم يصيح بصوت من قلبه.. ثمة من يريدها لا تشبه نهايات أفلام الرعب والأكشن.. وهادئة كموت مفاجئ.
اليوم سيزيد صوت شهقات البكاء لأمهات ودعنّ أحبابهن، وزوجات وحيدات، وآباء يخفون دموعهم بإباء الكبار لكن قلوبهم مفطورة ومنكسرة، وأخوات كن يحلمن بسهرة تختم العام بأغنية، وعشيقات في ثوب أرامل، وأصدقاء كانوا يحتفلون سوية كل عام ولكنهم اليوم لم يكملوا التعداد، وهواتف أغلقت على صوت فتاة الجوال الدائمة (خارج التغطية) أو (ليس موجوداً)، وكؤوس مصفوفة على الطاولات لكنها بلا أصحاب.
اليوم بعيونها فقط تعدًّ الأم الأبناء والأسرّة، والآباء يتلمسون رؤوساً صغيرة تنقص واحدة، وأما الأخت فلن تخرج في مشوارها السنوي فقد غاب رفيقها المؤتمن، والأخ في كامل صحوته يفتقد ضحكات عالية وحرة لأخ لا يسكته عن الضحك سوى التعب.
الجيران في هذه الليلة صامتون عن الفرح، ففي الجوار قلوب دامعة سكنت جانبهم طويلاً وعمراً، والهواتف لا ترن، والرسائل لن تعلن تبريكاتها المعهودة، والجارة التي توشك على الولادة أقسمت أن تسمي ابنها باسم الوحيد الذي أخذته طلقة لا ترحم، وصوت وحيد في تلك الثانية التي تعلن ولادة سنة جديدة.. الصمت الدامع؟.
الليلة لا عشاء، ولا زجاجات قرمزية، ولا اشتهاء، ولا متع تستنفر طالبيها، وحتى الفقراء الذين يمارسون الاحتفال أمام التلفاز لن تمتعهم مشاهد عري آخر السنة، ولا أولاد الحواري سيفتحون علب (الفلاش) تحت أعمدة الكهرباء، وفقط ربما يمارس عاشقو الذهول غواية اللا صحو احتفاء بالحزن وخلائط الفرح، وأما رواد الليل وحدهم فيمارسون طقسهم اليومي ولكن تحت راية السنة الحمراء.
في الواقع سيصطف الباحثون عن الدفء كعادتهم، والطابور الطويل أمام محطات الوقود لن ينتهي هذه الليلة، وفي صباح السنة الجديدة يتكرر الطابور بوجوه متشابهة ومتعبة، والليلة أيضاً يجلس منتظرو سيارة توزيع الغاز أمام مركز أبو عارف حالمين باسطوانة مليئة تكفي لشهر، والموظفون يعدون ورقات الراتب الشهري الخضراء بحسب الدائنين، والعاطلون عن العمل ينشغلون بترتيب يوم عمل لا يهم إلى أي سنة ينتمي.
أنا... وحيداً الليلة أشيّع شهواتي، وأحمد الله على نعمة الحياة، وأضع يدي على الجهة التي تؤكد أن قلبي ما زال مكانه بالرغم من كل صور الموت، وأفتح في منتصف الليل نافذتي - عندما تتعانق عقارب زمن الحياة التي تولد- في محاولة لاستنشاق أمل تحمله سنة تبدو بعيدة جداً..