الغاز الروسي.. القفز نحو الشرق
إن صفقة الغاز بين شركة «غاز بروم» الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية «سي إن بي سي» في الحادي والعشرين من أيار الجاري تعتبر الأضخم عالميا، حيث ستبيع روسيا بمقتضاها 38 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي من شرق سيبيريا إلى الصين لمدة ثلاثين عاما بقيمة إجمالية تصل إلى 400 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يبدأ تنفيذ الصفقة في العام 2018، مع إمكانية زيادة كميات الغاز الروسي المبيع للصين إلى نحو 60 مليار متر مكعب. وفي غالب الظن، قدمت روسيا تنازلات للصين في ما يتعلق بسعر الغاز المُتضمن في هذه الصفقة، إذ إن الخلاف بين البلدين على السعر كان أحد الأسباب وراء استمرار المفاوضات بينهما حولها، لمدة تقترب من عشر سنوات. ونعتقد أن هذه الصفقة ليست صفقة اقتصادية بحتة، بل تعتبر خطوة روسية أو «بوتينية» جديدة في سياق تعزيز «الجيوسياسة» الروسية في اتجاه «الشرق». وهذا يتضح أيضا من توقيت التوقيع نفسه، والذي يأتي بعد طول انتظار في ظل تصاعد الخلافات بين روسيا والدول الغربية على أوكرانيا.
ومن المعروف أن هذه الخلافات جعلت ورقة الغاز الروسي من الأوراق المؤثرة مجددا في العلاقات بين روسيا وأوكرانيا من ناحية، وبين روسيا والاتحاد الأوروبي من الناحية الأخرى. ولا تتردد موسكو في استخدام هذه الورقة، سواء ضد أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية. فقد ألغت روسيا تخفيضين للأسعار كانت تمنحهما لأوكرانيا على تسليم الغاز، ورفعت الأسعار من 268 إلى 485 دولارا لكل ألف متر مكعب، وهو السعر الأعلى في أوروبا. وهددت موسكو الحكومة الأوكرانية المؤقتة مؤخرا بقطع الغاز عن أوكرانيا في حزيران المقبل في حال عدم تسديد المديونية المترتبة عليها مقابل ما حصلت عليه من غاز روسي، وألزمتها أيضا بنظام «الدفع المسبق» في المستقبل. وكانت موسكو قد أوقفت إمدادات الغاز عن أوكرانيا عدة مرات خلال الفترة الممتدة بين 2005 و2010 خلال نزاعات بينهما. الأمر الذي أثر سلبا على إمدادات الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا التي تعتمد كثيرا على روسيا في هذا المجال، حيث توفر شركة «غاز بروم» نحو ثلث إمدادات الاتحاد الأوروبي من الغاز، وحيث يمر نحو 50 في المئة من هذا الغاز عبر أوكرانيا. ولذلك توجه رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو في يوم توقيع الصفقة الروسية ـ الصينية برسالة إلى الرئيس بوتين بخصوص أزمة الغاز مع أوكرانيا، متمنياً فيها عدم وقف إمدادات الغاز من روسيا عبر الأراضي الأوكرانية خلال فترة المفاوضات الثلاثية بخصوص أزمة الغاز بين روسيا والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا.
وفي ظل العلاقات الاقتصادية والتجارية المتشابكة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، والتي تعتمد أساسا على معادلة «تأمين أوروبا بالغاز والنفط الروسي مقابل توفير السلع الاستثمارية والتكنولوجية الأوروبية لروسيا»، تكون ورقة الطاقة الروسية إحدى الأوراق المهمة في الصراع الروسي مع أوروبا والغرب عموما. ومن هنا يأتي التفكير الأوروبي في تنويع مصادر الحصول على الغاز والنفط لتقليل «التبعية» لموارد الطاقة الروسية، ومن هنا أيضا تفكر روسيا نفسها في تنويع أسواق تصريف غازها ونفطها بالتوجه بهما نحو «الشرق» للإفلات من «التبعية» للأسواق الأوروبية قدر الإمكان.
وفي سياق التفكير الأوروبي بشأن تنويع مصادر الحصول على النفط والغاز، برزت على السطح إمكانية التعويض عن موارد الطاقة الروسية بنظيرتها العربية. وتفيد المعطيات الروسية أن الاحتياطيات النفطية المقدرة للمنطقة العربية تفوق بكثير الاحتياطيات الروسية. وتبلغ الاحتياطيات العربية 714 مليار برميل، مقابل الاحتياطيات الروسية التي تصل إلى 80 مليار برميل. وتزيد احتياطيات كل من الكويت والعراق والإمارات، على حدة، عن احتياطيات روسيا النفطية. كما أن احتياطيات السعودية بلغت 265 مليار برميل، أي أكثر بثلاث مرات من احتياطيات روسيا. وفي ما يتعلق باحتياطيات الغاز الطبيعي، فإن روسيا تمتلك منها كميات ضخمة تجعلها تقترب من احتياطيات المنطقة العربية ككل. وفيما تمتلك المنطقة العربية احتياطيات من الغاز تناهز 54,5 تريليون متر مكعب، نجد أن روسيا تمتلك نحو 47,8 تريليون متر مكعب.
وبحسب المعطيات الروسية، فإن الإنتاج النفطي للمنطقة العربية يقدر بــ24,5 مليون برميل يوميا، بينما تنتج روسيا نحو 9,9 ملايين برميل. وتعد السعودية أقرب الدول العربية لروسيا من حيث الإنتاج بنحو 9,7 ملايين برميل. وفي إنتاج الغاز، تصل حصة روسيا إلى 60 مليار متر مكعب يوميا، أما المنطقة العربية فتنتج نحو 57 مليار متر مكعب، أي أن روسيا تتفوق على الدول العربية مجتمعة في الإنتاج. ويصل الانتاج اليومي لدولة قطر نحو 20 مليار متر مكعب، وهي حصة تعادل ثلث الإنتاج الروسي. وفي ضوء هذه اللوحة، يخلص خبراء الطاقة الروس إلى أن الدول العربية النفطية بإمكانها تغطية أي عجز في إمدادات النفط للدول الأوروبية بسبب الصراع مع روسيا، ولكن من الصعب أن تساهم الدول العربية في تغطية العجز الأوروبي في مجال الغاز بالنظر إلى ضخامة الإنتاج الروسي.
هكذا، يتضح أن قطع النفط الروسي عن أوروبا يمكن تعويضه بالنفط العربي، بينما يصعُب تعويض أوروبا عن الغاز الروسي بالغاز العربي في المستقبل المنظور. ولذلك، فإن سياسة الاتحاد الأوروبي لتنويع مصادر إمدادات الغاز ستحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبيا حتى تكون فعالة في تقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي. ويبدو أن روسيا تدرك جيدا أن أوروبا عاجلا أم آجلا ستحقق هذا الهدف، ومن ثم سارعت إلى الصفقة الصينية لتحقق أهدافا جيوسياسية وتقفز نحو «الشرق» بغازها الطبيعي، وإن كلفها ذلك تقديم تنازلات لبكين في أسعار هذا الغاز.
المصدر: السفير