«العولمات الثلاث»1| الفرضية الخاطئة
- مقدمة:
تنتشر فكرة وجود نوعا عولمة في العصر الحديث: الأولى بدأت حوالي 1870 وانتهت عام 1914، والثانية بدأت في 1945 ولا تزال جارية. تتحدى هذه الدراسة هذه النظرة وتجادل بأنّ هناك ثلاث عولمات وليس اثنان فقط. سنتناول في البدء أدلّة تجريبية على فرضيّة العولمات الثلاث، ثمّ سنناقش تطبيقات تحليلية لفرضية العولمات الثلاث: العولمة الأولى الفكتورية، والعولمة الثانية في الحقبة الكينزية التي دفعتها المكاسب من التجارة وهذه المكاسب زادت الأجور الحقيقية في الدول الصناعية، والعولمة الثالثة النيوليبرالية التي قادها إعادة التنظيم الصناعي بدافع من الصراع التوزيعي. لا تفسر نظرية التجارة العولمة الثالثة وزيادة حصّة رأس المال على حساب العمالة، ولا يمكن بأيّ حال أن يكون هناك أيّ قناعة عن مكاسب متبادلة ناجمة عن العولمة الثالثة.
تعريب وإعداد: عروة درويش
- تحدي تاريخ العولمة المنمّط:
يقال غالباً بأنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، وأنّ حجاج وقضايا الخاسرين تدمر وتنسى في الوقت الذي يتم فيه تبرير والموافقة على حجاج وقضايا المنتصرين. يمكن لذات الشيء أن ينسـحب على الاقتصاد من الناحية النظرية، وعليه فإنّ الاقتصاد في الكتب الدراسية يعكس وجهة النظر المهيمنة والتي بدورها تميل لتعكس مجموعة المصالح المهيمنة.
يجتمع تاريخ الاقتصاد مع النظرية الاقتصادية ليصوغا «تاريخاً على المقاس»، والذي يقدّم بدوره تمثيلاً مبسطاً للواقع المعقد بحيث يصبح هو الحقيقة في نهاية المطاف. تمّ إنشاء التاريخ المنمط بعناية ليتوافق مع النظرية المهيمنة بحيث يسير جنباً إلى جنب مع كلّ ما يخدم المنتصرين.
يخدم التاريخ المنمط وظيفتين مزدوجتين حيويتين: الأولى هي إنشاء واقع مبسط يدعم النظرية المهيمنة، والثانية هي منح درعٍ مضاد للنقد التجريبي والتفاصيل غير المستحبة.
تتبدى لنا أهمية التاريخ المنمط بشكل تام في حساب الاقتصاد السائد لتاريخ العولمة. يرى هذا الحساب بأنّ هناك عولمتان في العصر الحديث: الأولى بدأت عام 1870 وانتهت في 1914، والثانية بدأت عام 1945 ولا تزال قائمة حتى اليوم. لقد استُخدم إطار العولمتين هذا لتهميش التفسيرات النظرية النقدية لحقبة العولمة الأخيرة.
إننا نقدم حساباً بديلاً عن وجود ثلاث عولمات في تاريخ الاقتصاد العالمي على مدى الـ 150 عاماً الماضية. يحوّل تفسير العولمات الثلاث تفسيرات التطورات التي حدثت في الأعوام الثلاثين الماضية بشكل جذري. فبدلاً من النظر إلى التطورات الأخيرة في ضوء التجارة العالمية، يتم النظر إليها عبر إعادة تشكيل تنظيم الإنتاج العالمي. لقد كان الهدف هو إعادة توزيع الدخل بأخذه من العمّال وإعطائه إلى رأس المال، وتمكين مجالات الأعمال من الفرار من القيود الاجتماعية والاقتصادية التي تمّ فرضها عليها بعد الكساد الكبير وإخفاق الرأسمالية الفيكتورية.
بشكل تحليلي: السمة النقدية لفرضيّة العولمات الثلاث هي في نقد تذويب تعريف العولمة بالتجارة. فالعولمة المعاصرة متعلقة بإعادة تشكيل الإنتاج وليس بالتجارة. التجارة مشمولة بشكل حتمي لأنّ البضائع والخدمات يجب أن تعبر الحدود. لكنّ نمط النقل لا تفسره النظرية التجارية، وهي التي تنص على النفع المتبادل لطرفي التجارة. ولكن يمكن تفسيره عبر إعادة التنظيم الصناعي الذي يحفزه الصراع التوزيعي، والذي يهدف لزيادة الربحية وزيادة الحصّة من الأرباح.
لقد قدّم منطق التجارة الجديد رابحين وخاسرين. ويشمل الرابحين اقتصادات السوق الناشئة التي تلقت تدفقات استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة هدفت لخلق منصات إنتاج تصديري. كما كان مالكو رأس المال في الدول المتقدمة من الرابحين أيضاً، لكنّ العمّال في البلدان المتقدمة كانوا من الخاسرين الكبار. الأثر الهام هو أنّ الدول الفردية وحتّى المكاسب العالميّة قد تكون سلبية. يتناقض هذا الأمر مع نظرية «هيكشر-أولين» التجارية التي يمكن فيها للعناصر الفردية أن تخسر، لكن في غياب العلل غير المتوقعة تكون مكاسب الدول والعالم إيجابية.
- فرضيّة الاقتصاد السائد المضللة عن العولمتين:
يزودنا الشكل رقم 1 بوصف تصويري عن تاريخ التجارة العالمية في الفترة ما بين 1870-2011، مبيناً صادرات وواردات العالم بوصفها حصّة من الناتج الإجمالي العالمي. تمّ تحديد بداية ما يسمى بالعولمة الأولى منذ عام 1870. لقد استندت إلى إدخال التلغراف والتبريد والتحسينات الهامّة على النقل بالبواخر والسكك الحديدية. أدّت هذه التطورات مجتمعة إلى زيادة هائلة في التجارة بين أوروبا الغربية والاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك كان هناك هجرة هائلة من أوربا إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وجنوب إفريقيا وآسيا وأستراليا.
الشكل رقم 1:
يتم الادعاء بأنّ العولمة الأولى قد جرت منذ العام 1870 إلى 1914، فانتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى. فكان هناك ما بين 1870 و1913 ميلٌ مطّرد لزيادة التجارة العالمية (لقد وصلت ذروتها في الحقيقة عام 1912). ثم تهاوت التجارة بشكل شديد عام 1914، لكن تمّ عكس هذا الهبوط بشكل اصطناعي بسبب واردات الحلفاء من الغذاء ومواد الحرب في 1917 و1918.
وعليه فقد انهارت التجارة العالمية ومالت للأسفل خلال فترة ما بين الحربين. كان هناك تعافٍ دوراتي في العشرينيات والثلاثينيات، لكنّ التجارة لم تتعافى إلى مستويات ما قبل الحرب كحصّة من الناتج الإجمالي العالمي. وقد أدركت الحضيض في عام 1945 عندما شكّلت التجارة العالمية فقط 10.2% من الناتج الإجمالي العالمي.
ثمّ بدأت العولمة الثانية في 1945 والتي تشير إلى بداية التوسع الحالي في التجارة العالمية. وفيما يخص التفاصيل فقد كان هناك تعافٍ حاد في التجارة في أواخر الأربعينيات، ممّا يعكس إعادة إنشاء الاقتصاد العالمي في أوقات السلم. وكان هناك تفجّر حاد ثانٍ في التجارة بين عامس 1968 و1980، ممّا يعكس فقاعات أسعار السلع وصدمات أسعار نفط أوبك في الأعوام الاثنا عشر التي رفعت قيمة التجارة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وفي النهاية كان هناك تفجّر ثالث في التجارة بعد عام 1991 والذي دام حتّى حدوث الأزمة المالية عام 2008. في عام 2009 انهارت التجارة. لكنّها ورغم انتعاشها منذ ذلك الحين فهي لم تنتعش حدّ مستويات النمو السابقة.
الشكل رقم 2:
يمكن تلخيص تاريخ قصّة العولمتين بالشكل رقم 2 الذي يبيّن التجارة العالمية كحصّة من الناتج الإجمالي العالمي في سنوات محددة. استمرت العولمة الأولى من 1870 إلى 1914. تبع هذا عولمة عابرة امتدت ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى وحتّى نهاية الحرب العالمية الثانية. بدأت العولمة الثانية عام 1946 واستمرّت. وضع عام 1972 علامة على نهاية حقبة بريتون وودز، لكنّ العولمة استمرت وتسارعت حتّى.
هناك سمتان هامتان لفرضيّة العولمتان المألوفة. الأولى: هي ربط العولمة كتعريف بتاريخ التجارة، ولهذا تصبح العولمة هي التجارة والتجارة هي العولمة. ثانياً: تمّ بناء الحبكة حول انقطاع العولمة ما بين الحربين والتي استمرت بعد الحرب العالمية الثانية. يعني هذا بطريقة أو بأخرى بأنّه كانت هناك عولمة واحدة فقط، وهي التي تمّ تعليقها مؤقتاً في العشرينيات والثلاثينيات.
يتبع