سلافوي جيجيك... انفجار الفقراء آتٍ
في كتابه «سنة الأحلام الخطيرة»- («دار التنوير» ــ ترجمة أمير زكي)، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2012، يتناول المفكر السلوفيني حركات الاحتجاج العالمية والعربية في عام 2011، متوقعاً اندلاع موجات جديدة منها. وهذا ما حصل فعلاً في مصر، وحتى تونس.
بزوغ حركة احتجاج شعبية عالمية عام 2011 من دون برنامج متماسك ليس مصادفة. يرى العديد من المراقبين أنّ ذلك يعكس أزمة عميقة بلا حلّ واضح. تحليلاً لهذه الحركات التحررية، قام المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك (1949) بالتوقف أمام ميادين التظاهر في 2011 في كتابه «سنة الأحلام الخطيرة» («دار التنوير» ــ ترجمة أمير زكي).
أحد أبرز باحثي الدراسات الثقافية خلال العقدين الأخيرين وُصف بأنّه «إلفيس النظرية الثقافية» في إشارة إلى «ملك الروك» إلفيس بريسلي، وعدّه الناقد البريطاني تيري إيغلتون ألمعَ شارح للتحليل النفسي، وللنظرية الثقافية عموماً. كتابه «سنة الأحلام» الذي صدر العام الماضي، لا يخلو من مناقشة لآراء هيغل، وماركس، وكانط، ودريدا، جيل دولوز، وكافكا، وإحالات إلى الموسيقى والأوبرا، ومداخلات في تاريخ الفلسفة، من سبينوزا إلى كيركغارد، وتحليلات لأفلام هوليوود، ونقاشات في اللاهوت المقارن، وتقارير في الفلسفة الإدراكية والاكتشافات العلمية... كل هذا جعل الناقد الأميركي فريديك جيمسون يرى عمل جيجيك «عروضاً للمنوعات النظرية» توقع الجمهور في قبضة الانبهار المنتشي. «إنه عرض رائع، لكن عيبه الوحيد أنّ القارئ يحار في النهاية بشأن الأفكار المعروضة، أو على الأقل بشأن الأفكار الأساسية التي يجب الحفاظ عليها». ونتيجة للتعقيد، سنهتم بالإمساك بأفكار جيجيك في ثلاثة محاور فقط، هي: انتفاضات الربيع العربي، النظام الإيراني، حركة «احتلوا وول ستريت»، مع الإشارة إلى أنّ خطاب جيجيك موجّه إلى القارئ الغربي في المقام الأول. لا يرى صاحب «مرحباً في صحراء الواقع» انتفاضات «الربيع العربي» مقطوعة الصلة عن تاريخ التحرر الراديكالي في التاريخ العربي والإسلامي، بدءاً من «دولة القرامطة» و«ثورة الزنج»، نافياً عن «الربيع» المرجعية الدينية، ومعتبراً إياه حالة من الاحتجاج على النظم القمعية، وخصوصاً في مصر وتونس، بينما كان الجانب الغربي ينتقي المشهد الذي يتوقف أمامه ويوليه اهتمامه. وبعدما بدأت «الحرب الأهلية» في ليبيا، ظهرت جيوش حقوق الإنسان في الصورة، داعمين المعارضة التي لم تقدم أي برنامج سياسي تحرّري «كما حدث في تونس ومصر». في المقابل، جرى تجاهل المصريين الذين تظاهروا ضد «الخطف الديني لانتفاضتهم»، ونُسي التدخل السعودي في البحرين الذي قضى على تظاهرات الأغلبية ضد النظام الأوتوقراطي. والغموض نفسه يحيط بالانتفاضة السورية (....).
يؤكد جيجيك لقارئه الغربي أنّ حكومات البلاد التي شهدت انتفاضات كانت سلطوية، لذلك توحّد مطلب العدالة الاجتماعية والاقتصادية مباشرة مع مطلب الديموقراطية؛ كأنّ الفقر ناتج من جشع وفساد مَن كانوا في السلطة. وبالتالي سيكون كافياً التخلص منهم، لكن ماذا لو حصلنا على الديموقراطية وبقي الفقر؟ ماذا بعد؟ يجيب المؤلف: «لسوء الحظ، يبدو أنّ صيف 2011، سيتم تذكره على أنه نهاية الثورة، بالإضافة إلى خنق تحرُّرها الكامن؛ فكان حفّارا قبرها هما الجيش والإسلاميين». وتوقع جيجيك الذي صدر كتابه بالإنكليزية مطلع العام الماضي ما حدث في 2012 من تسامح الإسلاميين مع الامتيازات المادية للجيش، وتأكيد سيطرتهم الإيديولوجية في المقابل، فـ«الخاسر هم الليبراليون الداعمون للغرب، لأنّهم ضعفاء على الرغم من كل تمويل الـ«سي. آي. إيه» الذي يتلقونه»! ورأى أنّ انهيار الوضع الاقتصادي سيدفع ملايين الفقراء إلى الشوارع آجلاً أو عاجلاً، هم الذين غابوا بشكل كبير عن انتفاضات الربيع التي كان يسيطر عليها شبابالطبقة الوسطى المتعلّمون. هذا الانفجار الجديد سيكرر انفجار الربيع، ما سيفرض اختياراً صعباً: مَن الذي سيمثل القوى المهيمنة التي ستوجّه غضب الفقراء، ويترجمها إلى برنامج سياسي: اليسار العلماني الجديد أم الإسلاميون؟
وبالنسبة إلى إيران، يتناول المؤلف تظاهرات 2009 بالتحليل، وموقف الغرب الذي حاول أن يستغلها لتحويلها كثورات أوروبا الشرقية. بيد أنّ موقف جيجيك من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد متذبذب ومتناقض. يراه حيناً شخصية استقلالية رافضة للتبعية، وكاشفاً لفساد النخبة، ومستخدماً لثراء الوقود ليزيد مداخيل الغالبية الفقيرة، ثم يعود ليقول: «نجاد ليس بطلاً للإسلاميين الفقراء، بل هو شعبوي إسلامي فاشي، شيء أشبه ببيرلسكوني إيراني. خليط من التظاهر المهرج والسياسة السلطوية المتهورة التي تجلب القلق حتى لأغلبية الملالي، وتوزيعه الديماغوجي للفُتات على الفقراء لا ينبغي أن يخدعنا. لا تقف خلفه فقط عناصر القمع الشرطي وجهاز العلاقات العامة المتغرّب، ولكن أيضاً طبقة قوية من محدثي الثراء». ويشيد المؤلف في مواضع بالثورة الإيرانية عامة.
أخيراً، خصّص جيجيك أغلب صفحات الكتاب لتظاهرات «وول ستريت»، إلا أن أبرز نتائج تحليله تتمثل في «أنّ الدرس الذي يجب تعلمه هو عدم لوم الأفراد ومواقفهم. المشكلة ليست فساد الفرد وجشعه، بل النظام الذي يشجعه على الفساد. الحلّ ليس شعار «الشوارع الرئيسية وليس وول ستريت»، بل في تغيير النظام الذي يجعل الشوارع الرئيسية معتمدةً على وول ستريت». إذن، مع نهاية عام 2011، بدت الأحلام في التلاشي، فحماسة الربيع العربي غرقت في التسويات والأصولية الدينية، وحركة «وول ستريت» فقدت زخمها، والقصة نفسها تتكرر حول العالم. بيد أن الباحث السلوفيني يرى أنّ «عدم الرضى المختبئ لا يزال مستمراً، والهدوء النسبي غير الطبيعي لربيع 2012، يمتلئ بالثقوب أكثر فأكثر، بسبب تنامي التوترات المُعلِنة عن انفجارات جديدة». وهو ما حدث في حزيران (يونيو) 2013 في مصر، والتوتر القائم في تونس، ويُتوقع انفجارات جديدة في البلدين ذاتهما. وبالتالي علينا أن نستحضر منظور المستقبل، وأن نتعامل مع نزعات التحرر كأجزاء محدودة ومشوهة «وأحياناً منحرفة» من مستقبل يوتوبي يقبع خامداً في الحاضر كجوهره المختبئ.
المصدر: الأخبار