ما بعد الانتخابات النيابية: لاستكمال المواجهة مع السلطة وأحزابها
أتت الانتخابات النيابيّة الأخيرة لتشكّل محطة جديدة من محطات المواجهة ضد هذا النظام المغرق في مذهبيته ورجعيته وتخلّفه وارتهانه للخارج، والحامي الأمي لمصالح البورجوازية من خلال سياساته المالية والنقديّة التي اتّبعها منذ عقود. وقد أخذ الحزب الشيوعي اللبناني منذ البداية خيار المواجهة مع هذا النظام وأركانه على قاعدة برنامج انتخابي وطني علماني ديمقراطي،
المصدر: صحيفة «النداء» - الحزب الشيوعي اللبناني
وضمن خيار تشكيل لوائح ذات طبيعة مدنية علمانية مستقلة عن أطراف السلطة في مختلف الدوائر الانتخابية. وفي هذا السياق، سعى الحزب إلى تجميع قوى وهيئات وشخصيات وتجمعات مركزيّاً وفي مختلف المناطق لتعزيز المواجهة وملاقاة الحالة الشعبية الواسعة التي ظهرت في لبنان منذ عام 2011 في حراك إسقاط النظام الطائفي، ومن بعدها في الحراك النقابي عام 2013 ثمّ في الحراك الشعبي الذي بلغ أوجه في مسيرات جمعت عشرات ألوف اللبنانيين عام 2015، بالإضافة إلى كل المعارك النقابية بين المعلمين والموظفين والعمال والمهندسين وباقي قطاعات المهن الحرّة، وصولاً إلى الحراك البلدي عام 2016. وكي تستطيع هذه اللوائح كسب ثقة فئة شعبية واسعة، رأى الحزب في خطته أن تشكيل اللوائح يقع بين حدّين: الاستقلالية عن أحزاب السلطة من جهة وعدم التقوقع والانعزال من جهة أخرى.
ولعلّ هذا الخيار كان الأصعب عمليّاً لكنّه كان الأوضح سياسيّاً، فلا تحالفات مع من استغلّ الناس وأذلّهم في حياتهم ورزقهم وأفقرهم ودفعهم إلى الهجرة فصاروا منتشرين حول أصقاع الأرض، وشرّع موارد الدولة والمال العام للأزلام والأتباع. وفي الوقت نفسه، أدرك الحزب ضرورة الوصول إلى أوساط واسعة ومتنوعة تبدأ من الشيوعيين إلى اليساريين وصولاً إلى الفئات المدنية والعلمانية المستقلّة سعياً لتحريك واستقطاب الفئات المتضررة الصامتة في بيئات ليس ضمن الجو الحزبي العام. وضمن هذه الجدليّة، وهوامشها الصعبة، سعى الحزب بدايةً في الترشيحات ثمّ في التحالفات، فنجح جزئياً في خطته، إذ تمكّن من تشكيل لوائح في خمس دوائر وتفاوتت هذه اللوائح في تنوّعها وسعة تمثيلها. كما دعم الحزب من خلال عمل منظماته الدؤوب العديد من اللوائح المدنية المستقلّة في دوائر لم يكن فيها مرشحون شيوعيون، وهو ما توافق مع خطاب الحزب الذي نادى بضرورة خوض المواجهة في كل الدوائر. أمّا التعثّر الذي حصل في هذه المرحلة في بعض الدوائر الأخرى فكان نتيجة غياب الحلفاء الذين يستطيع الحزب أن يشكل معهم لوائح جديّة ضمن دوائرهم، كما بسبب معوقات ذاتية آثرت أحياناً خوض المعركة بشكل منعزل عن أية تقاطعات خارج حلقة الحزب الضيّقة، ما انعكس سلباً على مشاركة الحزب ووضعيته في العمليّة الانتخابية.
ولا شكّ أن القانون الانتخابي الجديد جرى تفخيخه من داخله بالعديد من العوائق التي تحدّ من إمكانيّة الاستفادة من اعتماد النسبيّة في التمثيل، ولعلّ العائق الأساسي هو في تصغير الدوائر الانتخابيّة إلى الحد الأدنى الذي يجعل من عتبة التمثيل، أو الحاصل الانتخابي مرتفعاً ويتراوح بين 8 و20% من الأصوات في مختلف الدوائر. وفي بلد صغير مثل لبنان، تكاد تبلغ مساحته أو سكانه مقاطعة صغيرة في دولة كبيرة، تصبح النسبية في إطار 15 دائرة ذات تأثير ضعيف في تحسين التمثيل داخل السلطة، وتفقد القانون بعده الإصلاحي وتسجن النسبية في قفص المذهبية المتحكّمة داخل الدوائر الصغيرة. وزيادة في الطين بلّة، أمعن القانون في تفريق الصوت التفضيلي إلى 26 دائرة داخل الدوائر الخمسة عشرة ليحد من قدرة القوى العلمانية والوطنية المنتشرة جغرافياً على رفد مرشحيها بأصوات مرتفعة داخل لائحته. وقد أخذ الصوت التفضيلي منحاً مذهبياً محلياً في الكثير من الدوائر بسبب الكوتا المذهبية المعتمدة في البرلمان كما في كل مراكز القرار الرئاسية والحكومية في لبنان. وقد أكّد حزبنا في برنامجه على ضرورة مواجهة السلطة من خلال مواجهة المذهبيّة التي تبدأ من خلال قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي وعلى أساس الدائرة الواحدة، وقانون مدني للأحوال الشخصية وقانون عصري للأحزاب وقانون جديد للإقامة.
لقد جرت الانتخابات في ظروف خيّم عليها ارتفاع حدّة الفرز المذهبي، وافتعال الإشكالات من قبل قوى السلطة من أجل شدّ العصب وتخويف الناس ولم يتوانَ أهل السلطة عن تخوين منافسيهم كما فعل النائب نواف الموسوي الذي صبّ حقده عبر التحريض الكاذب والتخوينيّ بوجه لائحتنا في صور. وعاد المال السياسي بمنسوب أعلى من خلال المال الخارجي الدافق لكلّ الأطراف، كما من خلال المتمولين الذين كانوا سابقاً ينتدبون من يترشّح عنهم لحماية مصالحهم، وصاروا اليوم يخوضون الترشّح بأنفسهم مسرفين عشرات الملايين من الدولارات. وفي حين تشكّلت هيئة للإشراف على الانتخابات، جرت محاصرتها عبر تقويض صلاحياتها وأدواتها التنفيذية، فصار المال سيّد الموقف إذ وصلت أسعار الحلقات المتلفزة إلى مئات آلاف الدولارات في الساعة وامتنعت وسائل الإعلام عن تغطية أي حدث انتخابي إلّا إذا كان مدفوعاً وبأسعار هائلة. لقد شكّلت ظاهرة الإعلان الإنتخابي المدفوع ونزول كبار المتمولين على مختلف لوائح قوى السلطة، تظهيراً وقحاً لسلطة رأس المال ودوره المباشر في إدارة السلطة من خلال تحالفه العضوي مع القوى الطائفية الحاكمة.
وشهدت الانتخابات وكذلك الفرز عمليّة ترهيب كبيرة على المواطنين حيث كان الضغط مباشراً من خلال الدخول مع الناس إلى منصة الاقتراع، وتمّ تسجيل آلاف المخالفات الانتخابية، وجرى تسجيل شراء الأصوات علناً من قبل كل لوائح السلطة، وطرد المندوبون من مراكز الفرز، وضاعت صناديق من الخارج ومن الداخل، واختفت أصوات الكثيرين الذين وجدوا نتائج أقلامهم فيها صفراً من الأصوات للوائح التي اقترعوا لها. وقد اشتدت هذه المخالفات خاصة في الدوائر التي اقتربت اللوائح المعارضة فيها أن تصل إلى عتبة الخرق، ومنها تحديداً دائرة الشوف عاليه التي أشارت أرقام الماكينات عند الساعة الرابعة فجراً وصول لائحة كلنا وطني التي شارك فيها الحزب إلى حوالي 11 ألف صوت (8% من الأصوات المفرزة حتى اللحظة) عند الساعة الرابعة فجراً وهو ما يتخطّى الحاصل في الدائرة (7.7%)، لتعود النتائج الرسميّة وتظهر وقوفها عند حدود العشرة آلاف صوت بعد طرد مندوبي اللوائح من مراكز الجمع في لجان عاليه وبيت الدين.
وفي النتائج الرسميّة، نالت اللوائح التي شارك فيها الحزب ترشيحاً 33942 صوتاً منها 11481 صوت (7.6%) في صور الزهراني، و 9987 (5.9%) في عاليه الشوف، و5895 (2.6%) في الجنوب الثالثة و 4053 (2.1%) في بعلبك الهرمل و 2526 (2.2%) صوت في كسروان جبيل.
أما الأصوات التفضيلية التي نالها المرشحون المدعومون من الحزب الشيوعي فبلغت 10321 صوت في هذه الدوائر الخمسة مع ملاحظة عدم وجود مرشحين شيوعيين في أقضية كسروان والزهراني التي ذهبت أصواتها من دون تفضيلي أو إلى مرشحين آخرين، وتوجّه مئات الأصوات التفضيلية في عدة دوائر إلى مرشحين آخرين من ضمن أصدقاء في اللائحة نفسها. أما اللوائح المدنية والعلمانية المستقلة التي ترشحت ضد لوائح السلطة في الدوائر الأخرى التي لم يترشح فيها الحزب ودعمها الشيوعيون، فقد حققت حوالي 38 ألف صوت. ونجحت هذه اللوائح في خلق ديناميّة سياسيّة هامة في عدّة دوائر خاصّة في المناطق التي لعب فيها الشيوعيون دوراً محورياً في تحريك القواعد والناس وجيروا لها أصواتهم كما في دائرة بعبدا وغيرها.
لقد شكّلت هذه النسبة من الأصوات نجاحاً جزئياً في بعض الدوائر مثل عاليه الشوف، وانتكاسة جزئية كما في دائرة الجنوب الثالثة، ولا شكّ أن التقييم الفعلي لنتائج هذه الانتخابات والذي تعكف الهيئات القيادية المختصّة على إنجازه، يجب أن ينطلق من تحليل علمي رقميّ وسياسيّ دقيق لأسباب النجاحات والانتكاسات النسبيّة المحققة على كافة الصعد، وتحديد مكامن القوّة والاعتراف بمكامن الفشل بمسؤولية عالية.
إنّ الدروس المستقاة من نتائج الانتخابات تصبّ كلها في الخلاصة التي وصل إليها الشيوعيون في مؤتمراتهم: تصعيد النضال ضد هذا النظام في طبقيته ومذهبيته وارتهانه الخارجي عبر برنامج عمل وطني علماني ديمقراطي، رغم صعوبة الظروف الموضوعية كما الذاتية، وخوض هذه المعركة بكلّ ما أتيح لنا من قوّة وعلى كل الجبهات، من موقعنا المستقلّ. معركة الصناديق ليست إلّا محطةً واحدةً في مسار نضالي طويل، يستمرّ بعدها أقوى ممّا كان قبلها، ويأخذ منها عبراً لاستمرار مسيرة النضال الطويل من أجل التغيير.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني