حول مستقبل سعر الفائدة في الاقتصاد المصري!
لقد شاع فى دوائر صناعة السياسة النقدية فى مصر استخدام سعر الفائدة باعتباره سلاحا رئيسيا لصد هجمات التضخم الزاحف. ومؤدَّى ذلك أنه عندما يرتفع معدل التضخم فى أسواق السلع والخدمات، فإن السياسة النقدية دائما ما ترى الحل يكمن فى سوق النقود، عبر رفع سعر الفائدة فى هذه السوق. فالعقيدة الاقتصادية المصرية فى عصر التكيف المالى تخلع على سعر الفائدة صفة «طبيب التضخم»، وتثق فى مهاراته التشخيصية لهذه المشكلة المستعصية، وتُهوِّن من الآثار الجانبية لوصفاته العلاجية. وهى فى ذلك تنطلق من نفس المنطلقات العقائدية فى الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، دون أن تأخذ فى اعتبارها البون الشاسع بين الاقتصاد المصرى وبين تلك الاقتصادات فى فاعلية السياسة النقدية، وفى مسببات ونتائج مشكلة التضخم.
للاقتصاد المصرى تجربتان شهيرتان مع سعر الفائدة المرتفع؛ الأولى عندما وصل هذا السعر لأعلى مستوى فى التاريخ النقدى المصرى، بوصوله لمعدل 21.5% تقريبا فى العام 1992، والثانية عندما اقترب بشدة من هذا المستوى فى منتصف العام الماضى (وصل لمعدل 19.75% فى يوليو 2017). وفى اقتصاد يتمتع بهذه الخبرة النقدية، هل من الممكن أن نُحدد الملامح الرئيسية لمستقبل سعر الفائدة فى مصر بقدر معقول من الموضوعية؟
للإجابة عن هذا السؤال، دعنا نُقرر فى البداية أن التضخم هو الظل الكئيب لبرنامج التكيف المالى المعمم دوليا. ذلك لأنه عندما يقرر أى اقتصاد الاتفاق مع صندوق النقد الدولى لتطبيق مكونات هذا البرنامج، إذا بالأسعار تتجه للتحليق فى مستويات مرتفعة، باعتبار ذلك نتيجة منطقية لتخفيض نفقات الدعم، ولزيادة الضرائب غير المباشرة (ضريبة القيمة المضافة)، ولتحرير سعر صرف العملة الوطنية.
وعندما يرتفع معدل التضخم، وعندما تئن القوة الشرائية للعملة المحلية، تُخرج السياسة النقدية من جُعبتها سلاح سعر الفائدة، لتخوض به «معركة» الانتصار على التضخم المنفلت. غير أن هذه «المعركة النقدية» غالبا لا يتحقق فيها الانتصار الحاسم على هذا العدو اللدود، ليس لأنها غير نبيلة المقصد، بل لأنها لا تستخدم السلاح المناسب. فسلاح سعر الفائدة المستخدم فى هذه المنُازلة له سمات خمس، تجعله غير قادر على التصدى بحزم للتضخم، وهى:
ــ التأثير الإيجابى الضعيف على معدل الادخار. فالزيادات الكبيرة فى سعر الفائدة لن تحقق زيادة مناظرة فى معدل الادخار الإجمالى، مادام الدخل الفردى الحقيقى باقيا على وضعه المنخفض الراهن. وغاية ما يمكن لهذه الزيادة فِعله هو إعادة توزيع المدخرات القائمة بين الأوعية الادخارية المختلفة. ويعزز من هذه السمة الضعف الملحوظ فى الوعى الادخارى فى الاقتصاد المصرى حاليا، وهو الضعف الذى حدا بصانع السياسة النقدية للإلحاح فى موضوع «الشمول المالى» أخيرا.
ــ التأثير السلبى البليغ على تكاليف الاستثمار المحلى. فزيادة أسعار الفائدة تُزيد ــ بنفس النسبة أو بنسبة أكبر ــ من تكاليف التمويل والاستثمار فى المشروعات الجديدة، وترفع من عبء المديونيات فى المشروعات القائمة. كما يعبث سعر الفائدة المُتَقلب والمرتفع بمحددات الجدوى الاقتصادية للمشروعات الاستثمارية المزمع تأسيسها، ويقلل من فرص الاستقرار فى ربحية المشروعات الاستثمارية المستهدفة، وهو ما يمثل عنصرا طاردا للاستثمار الأجنبى المباشر.
ــ زيادة أعباء المديونية الداخلية. فعندما يرتفع سعر الفائدة لمستويات قياسية، فإن الحكومة مُطالبة بزيادة مُقابلة فى العائد على أدوات دينها العام (أذون وسندات الخزانة)، ويزيد ذلك آنيا من عبء الدين العام الداخلى.
ــ التأثير الإيجابى المؤقت لسعر الفائدة المرتفع على سوق الأوراق المالية. فعندما يُحرر حساب رأس المال فى ميزان المدفوعات من الضوابط التنموية، فإن رفع سعر الفائدة المحلية يجذب رءوس الأموال الأجنبية الساخنة للولوج لسوق الأوراق المالية، إما للمضاربة على سعر الجنيه الذى يُمعن فى الانخفاض مع هذا التحرير، وإما للاستفادة من فروق سعر الفائدة على الأوراق المالية المتداولة. وينتج عن تلك العملية زيادة مؤقتة فى التدفقات الداخلة للنقد الأجنبى. ولكنها سرعان ما تخرج محملة بجبال شاهقة من الأرباح الرأسمالية المُستنزفة من جسد الاقتصاد الوطنى المُنهك. ويعنى ذلك أن هذا الأثر الإيجابى المؤقت ينقلب سريعا لأثر سلبى شديد على موازنة الصرف الأجنبى.
ــ أثر الفجوة الزمنية. فوجود فترة إبطاء ملحوظة بين التغير فى سعر الفائدة وبين استجابة المتغيرات الاقتصادية المرتبطة بها (قد تصل تلك الفترة لثلاثة أشهر فى الاقتصاد النقدى المصرى) يحد من فاعلية سلاح سعر الفائدة فى التأثير المنشود على معدل التضخم.
على أننا إذا قمنا بعملية تجميعية بسيطة لمحصلة الآثار الخمس السابقة، وإذا أخذنا فى الاعتبار أن أغلب التغيرات الكبيرة التى تدخلها لجنة السياسة النقدية على سعر الفائدة تحدث بصورة فُجائية ــ فلن يكون فى وسعنا إلا التسليم بأن سلاح سعر الفائدة المرتفع غير قادر على وقف التضخم الزاحف، بل إنه يزيد من حدة مهاجمته للأسواق المختلفة. وبمنطق مماثل، فإننا نعتقد أن التضخم لن يتوقف عن الزحف على أسواق السلع والخدمات بغض النظر عن المستوى المقرر لسعر الفائدة، وأن كبح جِماح هذا التضخم مناطُه أدوات اقتصادية عديدة، ليس من بينها سعر الفائدة المرتفع.
****
لقد أصبح من الواضح الآن أن المبررات التى تُساق فى كل مرة يُقرَر فيها زيادة سعر الفائدة لمستويات قياسية، لا يمكن قبولها فى ضوء النتائج العكسية المترتبة على هذه الزيادة. وبالتالى، فإن التأرجح ــ صعودا ونزولا ــ فى سعر الفائدة سيظل هو السمة المسيطرة على السياسة النقدية المصرية؛ ولن تتمكن هذه السياسة من النزول بسعر الفائدة لمستويات مقبولة تنمويا، مادامت تعتقد بأن رفع هذا السعر كفيل بتخفيض معدل التضخم.
وفى ضوء التحليل النقدى السابق، نؤمن بأن الملامح المستقبلية لآلية سعر الفائدة فى مصر ستظل مرهونة بالمحددات الأربعة التالية:
أولها: معدل الاستثمار المحلى على اعتبار أنه نسبة من الناتج. فإذا تمكنت التحسينات المدخلة فى المُناخ الإجمالى للاستثمار من رفع الجهد الاستثمارى (المحلى والأجنبى) فى الاقتصاد المصرى فى المستقبل المنظور، فسوف يُزاحم العائد المتولد من الاستثمار المباشر العائد الممنوح من البنوك، وسيأخذ سعر الفائدة فى الهبوط التدريجى. وبهبوط سعر الفائدة يزداد التحسن فى مناخ الاستثمار الإنتاجى، إذ من المستقر عليه وجود علاقة دائرية واضحة بين هذين المتغيرين.
ثانيها: مستوى الكفاءة فى الأسواق والمؤسسات المالية الوسطية (البنكية وغير البنكية). فعندما يشهد المستقبل المنظور تحسنا فى معايير الكفاءة والجودة فى الخدمات المالية المتاحة فى البنوك التجارية والاستثمارية وشركات التأمين، وعندما تتطور أنشطة سوق الأوراق المالية المصرى، فسيغُنى ذلك عن الحاجة المُلحة لزيادة سعر الفائدة لتعويض النقص فى هذه الكفاءة، وينخفض على إثر ذلك سعر الفائدة فى المستقبل.
ثالثها: حالة التوازن فى سوق الصرف الأجنبية. فلو لم تتمكن سياسة التجارة الخارجية من التصدى للضغوط المفروضة على الجنيه المصرى لتلبية الواردات المتنامية، ولم تُدعم ــ بشتى الطرق ــ الطاقة التصديرية المصرية، ستظل هناك حاجة مستقبلية ماسة لزيادة سعر الفائدة المحلية لجذب المدخرات الأجنبية قصيرة الأجل، بهدف تهدئة العجز فى هذه السوق.
رابعها: الحجم المستهدف للمديونية الداخلية والخارجية. فطاقة الاقتصاد المصرى المستقبلية على تحمل المديونية الداخلية، وعلى استيعاب الديون الخارجية، تُحدد ــ هى الأخرى ــ المستوى المتوقع لسعر الفائدة فى المستقبل. ولما كانت الديون المتُنامية تتسبب فى زيادة الأعباء المالية على كاهل الحكومة فى المستقبل، فإن زيادة هذه الأعباء تصبح سببا إضافيا لرفع سعر الفائدة لجذب تمويلات جديدة للديون القديمة. وبارتفاع سعر الفائدة تزاد المديونية الحكومية، ويرتفع سعر الفائدة مرة أخرى، وهكذا دواليك. ويعنى ذلك أن استهداف معدل مرتفع للمديونية يُسقطنا ــ لا محالة ــ فى «مصيدة» سعر الفائدة!.
وعلى هدى من المحددات الأربعة السابقة، ليس من المتوقع أن يشهد المستقبل المنظور للاقتصاد المصرى تراجعا لمستوى سعر الفائدة ليصل للمستوى التنموى المنشود (لاحظ أن سعر الفائدة فى الاقتصادات المتقدمة يدور حول 3% فى المتوسط، ويتحول لسعر سالب فى بعض منها)، إلا إذا ارتقى مُناخ الاستثمار ليجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية المرتفعة القيمة المضافة، وتحسنت كفاءة الأسواق والمؤسسات المالية فى خلق أوعية ادخارية وخدمات مالية متطورة، وتوازن سوق الصرف حقيقيا، واستهدفت الحكومة أحجاما منخفضة للمديونية الإجمالية تتناسب مع طاقة الاقتصاد المصرى فى استيعاب الديون. وبدون ذلك، سنظل على أرجوحة سعر الفائدة.
****
حقا، إن أحدا لا يُنازع أن سعر الفائدة يمثل أداة مهمة لدى السلطات النقدية، وأنه يلعب دورا واضحا فى توجيه الادخار «الفعلى» للأوعية المختلفة. غير أن مقدار التأثير المتوقع على باقى المتغيرات الاقتصادية، ومن بينها معدل التضخم، سيظل هو الاختلاف الجوهرى بين تقديرنا لهذه الأداة النقدية، وبين التقدير الذى تُصاغ فى ضوئه السياسة النقدية الحالية. فبينما تلمع هذه الأداة فى أعين السياسة النقدية الحالية، فإننا نعتقد أنه ليس دائما كل ما يلمع ذهبا!
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني