باسل الأعرج ... الشهيد والنموذج
بدعوة من قوى وهيئات وشخصيات وطنية، استضاف المجلس الوطني الفلسطيني بتاريخ 10 آذار 2018، ندوة حوارية عن الشهيد باسل الأعرج وذلك بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده، وألقى الأستاذ محمد العبدالله محاضرة بعنوان «باسل الأعرج ... الشهيد والنموذج»
فجر السادس من شهر آذار 2017 بادر مُطارد فلسطيني لإطلاق النار على عناصر وحدة "يمام" الخاصة، التي طوقت المكان الذي يختفي به منذ عدة أشهر في مدينة البيرة بالضفة الفلسطينية المستباحة، بهدف إعدام/ تصفية "باسل الأعرج". قاوم " المطلوب رقم 1" المتحصن في سدة / سقيفة المنزل ، ببسالة ثورية – له من إسمه نصيب – حتى استشهد بعد أن نفذت ذخيرة سلاحه ولم يرفع الراية البيضاء كما قال شقيقه في نعيه : " لم تُسَلم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم. اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً".
بطاقة تعريف مختصرة بالشهيد :
- باسل محمود ابراهيم الأعرج/ قرية الولجة الواقعة جنوب غرب مدينة القدس(حوالي 6 كم) وشمال غرب مدينة بيت لحم ( حوالي 5 كم).
- الولادة : 27 كانون الثاني عام 1984 . – الاستشهاد 6 آذار 2017.
- كان متفوقاً طوال فترة دراسته، تميز منذ طفولته، حِرصَهُ على سماع قصص التاريخ والحكايات الشعبية، إضافة لتركيزه الشديد على كل مايحيط به كما تقول والدته " كان عنده حب استطلاع فظيع جداً". لهذا، بدأ باكتشاف البيئة الطبيعية المحيطة : وديان وكهوف وآثار وعيون ماء.
- أنجز مراحل التعليم في مدارس المنطقة وحاز على شهادة التوجيهي ( البكالوريا) من ثانوية بيت لحم عام 2002.
- غادر إلى مصر لاستكمال تحصيله العلمي وسجل في جامعة 6 اكتوبر – كلية الصيدلة.
- توزعت حياته في الجامعة على الدراسة العلمية والقراءة السياسية والتاريخية ومساعدة زملائة الطلبة، خاصة، الجدد في كل مايحتاجونه. في أحد الأيام قال لزميله في السكن " اليوم أنهيت قراءة ألف كتاب من أول حياتي".
- كان يحرص في معظم الإجازات الدراسية على السفر للأردن للقاء قريبه " إبن عم والده " الراحل محمد خليل الأعرج "أبو خليل" الذي كان ملهمه ونبع السرد التاريخي المتدفق الذي غمره بحكايا المقاومة المسلحة وأبطالها وصمود شعبها، خاصة ، لأنه شارك بالكتيبة الطلابية/ كتيبة الجرمق في لبنان أثناء دراسته الجامعية وشارك في معارك عديدة دفاعاً عن المقاومة والشعب مع رفاق السلاح الشهداء "مروان الكيالي وأبو حسن قاسم وعلي أبو طوق".
- عام 2007 عاد من مصر بشهادة الصيدلة وتنقل بعمله لعدة سنوات في صيدليات " بيت جالا ومخيم شعفاط" حتى أواخر 2011 . خلال تلك المدة أقام علاقات واسعة بالناس الذين أحبوه من خلال مشاركته بالعديد من الأعمال التطوعية لتثقيف الأطفال والجولات الميدانية والمشاركة بمظاهرات :
- التضامن مع الأسرى في رام الله. في الخليل، للمطالبة بفتح شارع الشهداء . مسيرات ضدمخطط برافر ( تهويد النقب ). اعتصام 15 آذار 2011 تحت شعار انهاء الانقسام. في ذكرى النكبة بنفس العام شارك بالمسيرة التي خرجت من الولجة باتجاه الشيك الفاصل، وقد اعتقلته قوات العدو المحتل ليوم واحد، تعرض خلاله للضرب المبرح مما أدى لكسر ثلاثة أضلاع في صدره. شارك بفعالية في الاحتجاجات الشبابية الصاخبة في ميادين مدينة رام الله، ضد السياسات الإقتصادية والاجتماعية والأمنية لسلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود. قاوم مع رفيقاته ورفاقه كل إنعكاسات "اتفاق أوسلو" على الأرض، وتأثيراتها في العقل المجتمعي. وقد عبَّر عن ذلك بأنشطة متعددة، منها، العمل مع مجموعة من الشباب والشابات في تموز عام 2012 على إطلاق مظاهرات الرفض لدعوة مجرم الحرب " شاؤول موفاز" لزيارة رام الله، واستطاعوا، بوضوح موقفهم وصلابة إرادتهم واتساع التضامن الشعبي معهم، منع القاتل من القدوم، بعد أن تعرضوا للضرب والقمع على يد أجهزة أمن السلطة. في حزيران 2013 شهدت مدينة رام الله مظاهرة صاخبة للتنديد بإعلان السلطة توجهها للمفاوضات بعد 3 أعوام على توقفها. لكن تلك الأجساد المفعمة بحب الوطن والشعب لم تسلم من القمع والضرب بالهراوات التي أصابت إحداها رأس باسل بجروح عميقة مما تطلب علاجه بسبع قطب.
- في عام 2013 انتقل للإقامة في مدينة رام الله . ومنذ منتصف 2014 تقريباً انضم للعمل مع فريق المتحف الفلسطيني كباحث في تاريخ فلسطين، خاصة، تاريخ المقاومة الفلسطينية.
لم تكن شوارع المدن هي المجال الحيوي للتحرك الشبابي الذي يكون باسل في مقدمته، بل إنه جال في قرى وجبال ووديان وسهول الوطن، باحثاً في تربتها وصخورها وكهوفها عن تاريخ الناس وعلاقتهم بالأرض، وعن كل فدائي قاتل واختفى بعيداً عن عيون المخبرين والعملاء والمحتلين من أجل الانطلاق لجولة جديدة من القتال، ثم استشهد. كان باسل يستلهم من دروس كل التجارب في نقاشاته العديدة مع الفلاحين في تلك المناطق، تقديم النماذج المضيئة في تاريخ الشعب، بهدف ربط الماضي بالحاضر من أجل صياغة المستقبل : التحرر من الغزاة المحتلين. وقد تعرض باسل واثنان من رفاقه "محمد حرب وهيثم سياج" أثناء إحدى الجولات الميدانية أواخر آذار وأوائل نيسان 2016 للاختفاء !! . بعد أسبوع في 8 نيسان اعترفت الأجهزة الأمنية للسلطة بالعثور عليهم في إحدى وديان قرية عارورة في قضاء رام الله .ثم أقدمت تلك الأجهزة على اعتقال ثلاثة آخرين من الناشطين " سيف الادريسي و محمد السلامين وعلي دار الشيخ". في أثناء التحقيق تعرض الشباب "هيثم ومحمد وباسل" لأشد صنوف التعذيب، حتى أن قلب باسل توقف عن النبض ثلاث مرات، كما قالت والدته بالصوت والصورة، ما اضطر جهاز التحقيق لتحويله للخدمات الطبية عدة مرات .وقد اضطرت السلطة بعد عدة أشهرلإطلاق سراح الموقوفين الستة بعد أن خاضوا إضراباً عن الطعام منذ تاريخ 28 آب ولغاية 6 أيلول، واستطاعوا بإرادتهم الصلبة هزيمة جلاديهم، مما أطلق حملة شعبية واسعة وضاغطة ، أثمرت عن تحويلهم لأول مرة للمحاكمة وتم إطلاق سراحهم، بكفالة، يوم 8 أيلول .
لم تنتظر قوات الغزاة المحتلين، كثيراً حتى بدأت بحملة اعتقالات شملت خمسة شباب مما دفع باسل لأخذ قراره : الاختفاء والتواري عن الأنظار، والتنقل متخفياً تحت اسم مستعار، في حركة حذرة، لمتابعة تواصله مع الحلقة الضيقة التي تحيط به والتي شَكلت مفاتيح التواصل مع الحراك الشبابي. إختفى، من أجل أن يستعد ويتحضر للساعة الحاسمة والفاصلة. جَهَز المكان بضرورات الحياة البشرية من طعام وماء، ومن غذاء العقل: الكتب. خبأ السلاح والطلقات وأصبح بكامل جهوزيته. استطاع باسل بعد كل تلك التجارب والدروس أن يصل إلى الإجابة على كل تلك الأسئلة الكبرى المرتبطة بالوطن والتحرر من الغزاة المحتلين ومن كل مظاهر التخلف والقهر والزيف والتضليل التي روج لها صانعو كارثة اتفاق إعلان المبادئ "اتفاق أوسلو" من خلال " سلطة بدون سلطة " كما قال رئيسها أمام مجلس الأمن الدولي يوم 20 / 2 / 2018 .
إضاءة سريعة على أبرز ماكتبه الشهيد :
بعد استشهاد باسل، تطوع عدد من رفاق وأصدقاء ومحبي الشهيد على جمع ماكتبه من أبحاث ودراسات "آلاف الصفحات"، والتعليقات على شبكة التواصل الاجتماعي، والمحاضرات واللقاءات التي أنجزها في جولاته الميدانية في القرى والبلدات على اليوتوب . وتُظهر جميعها أننا أمام ثقافة عالية لمثقف من طراز ثوري رفيع، خاصة، أن حاملها لم يكن من نمط ماتعج به الفضائيات وسواها من منابر وصفحات إعلانية وإعلامية، من رموز الثرثرة والتسطيح الفكري الانتهازي،و"الفهلوة" التي تبرر التنازلات والارتزاق. كانت تلك الأفكار التي حملها باسل، غنيةً بالمضمون الإنساني التحرري والوطني المقاوم، وهذا ماترجمه بالواقع الميداني الكفاحي طول سنوات عطائه المجيدة.
وسأذكر سريعاً – لضيق الوقت – عناوين بعض تلك المقالات والدراسات مع عرض موجز وسريع لبعض مايمكن التوقف عنده :
- الذاكرة الجريحة للنكبة – المُونِه ( الفزعة ) – الكف الأسود – الاقتصاد في الانتفاضة – الكفاح المسلح في ثورة 1936 – الفن في فلسطين – رمزية البندقية – حزب الكنبة الفلسطيني : دراسة مشتركة مع زيد الشعيبي منشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 2012- الشعب يريد مجلساً وطنياً جديداً 30 / 3 / 2013 - عميرة هس ووهم "اليسار المتضامن" 10 / 4 / 2013- الانتفاضة دمرتنا "عن هذه الادعاءات أتحدث" 26 / 9 / 2013 – حرر عقلك واهدم صنماً – الحراك الشبابي والفضاء المتوتر- لاتكن مع الاحتلال ضدهن – شهيد الشرف العسكري : البطل أمجد السكري -
* عن وهم "اليسار المتضامن" الذي يتشدق بعض كتبة الاحتلال والاستسلام، يدحض باسل واحدة ممن يُصفق لها البعض في مجالسهم وكتاباتهم، الكاتبة الصحفية " عميرة هس " . يكتب باسل "عميرة هس لاتختلف عن أي مثقف من مثقفي المُستَعِمر، وهي ليست إلاّ جندياً في المعركة الخلفية التي يطلقها المستعمر في ميدان الثقافة والقيم... تعترف بـ" حقوقك" لكن بشروط، وأهم تلك الشروط أن تظل تدور في فلكها وأن لاتحاول التمرد على ماتُلقنه لك، وصار لزاماً على المستَعمَر أن يهضم ثقافة مضطهديه" انتهى الاقتباس.
* في المقال، التاريخي والمعرفي والواقعي الذي كتبه في أواخر عام 2013 تحت عنوان " عش نيصاً وقاتل كالبرغوث" اقتباس عن حياة النيص في عالمه الخاص داخل جوف الأرض عبر الأنفاق. وعن قدرة تلك الحشرة الصغيرة جداً "البرغوث" التي تمتص دم ضحيتها من خلال معرفتها بنقاط الضعف الجسدي، وبقدرتها على القفز والتنقل الدائمين فوق ذلك الجسد. في ذلك النص الجميل والبسيط، أراد باسل أن يقدم لكل مهتم بالمقاومة تلك النماذج التي يعرفها أبناء الريف الفلسطيني، للتعلم من أسلوب حياتها في الاختفاء والحركة.
وقد التزم الباسل بذلك النموذج وجسده على أرض الواقع: اختفاءً وقتالاً. وارتقى شهيداً بعد أن تطرز جثمانه بأوسمة الشجاعة والبطولة التي ثبتتها إثنان وعشرون طلقة وشظية من القذيفة الصاروخية المضادة للأفراد التي أطلقها الغزاة القتلة. لم يكتفوا بذلك، بل صادروا الجسد واحتفظوا به في الثلاجة لعشرة أيام . في السابع عشر من آذار وافق العدو على تسليم جثة الشهيد لوالده. وقد تم تشيعه بجنازة جماهيرية حاشدة في تحد لسلطات الاحتلال، ليُزف الباسل في عرس شعبي إلى معشوقته الأبدية : الأرض الفلسطينية التي افتداها بدمه ودفن في ترابها، ليزهر أفكاراً ومقاتلين ومقاتلات من أجل حرية الوطن وتحرر الإنسان.
في وصيته التي افتتحها بـ (تحية العروبة والوطن والتحرير) تكثيف واضح للثوابت التي آمن بها. أما خاتمتها فتحمل من كاتبها، اعترافاً بالقناعة التامة لما وصل إليه، بوعيه وثقافته وممارستة لكل ذلك على أرض الواقع ( أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ أو أفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلى أنَّ ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم. أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله).
في داخل ساحته التي استعد فيها للمواجهة وللإجابة على الأسئلة التي طرحها الواقع المباشر، كانت أدوات الإجابة تختزل أية اجتهادات وتوفر الوقت لكل باحث عن الحرية : الكتاب/ الوعي، والبندقية المسيسة، والإرادة .
باسل الأعرج ، لم يكن حاملاً لثقافة الاشتباك – كما غيره من المناضلين المثقفين- بل كان مثقفاً ثورياً مشتبكاً، وفدائياً مقاتلاً بالسلاح من أجل قضيته وقضيتنا جميعاً . وقد جمع في ذاته نموذجين بارزين في حركتنا الوطنية التحررية : غسان كنفاني ووديع حداد وغيفارا غزة وعمر القاسم وخالد أكر ومحمود طوالبة ويحيى عياش.
يكتب شهيد قضية التحرر الوطني والقومي "غسان كنفاني" (كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه).
الباسل أحد أولئك الرجال الحقيقيين الذين مزجوا الكلمات/ الأفكار مع السلاح، من أجل حرية وطنهم وكرامة شعبهم.
أيها الباسل ...
سلام عليك، وأنت تعيد لهامات فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، الارتقاء في سماء صفد والخليل وكل فلسطين.
سلام عليك ، يابيرق النصر يرفرف خفاقاً في يد عبد القادر الحسيني.
سلام عليك، وأنت تخطو بثبات وعزة نحو أحراش يعبد لتُقَبل رأس عز الدين القسام.
سلام عليك ، يامن تعلمت من التاريخ وعبق تراب الوطن وحكايات الجد والعم والعمة، أن أرض فلسطين لاتقبل القسمة ولا التبادل ولا التنازل.
سلام عليك ، وأنت تحلق في فضاء الشعب والأمة، نسراً ينظر بكل استخفاف وازدراء لتلك النسور الزائفة التي تلمع على أكتاف من لاحقوك وعذبوك.
سلام عليك ، لأنك أعدت للأفكار وضوحها وبهاءها بعد أن ترجمها الفعل المقاوم، رصاصاً في وجه الغزاة المحتلين.
سلام عليك وسلام إليك يانجمة صبحنا القادم، مقاومة ً وانتصاراً.
شكراً لكم .