تمزيق كوسوفو بين الماضي والحاضر1
أعاد اغتيال الزعيم الصربي الكوسوفي أوليفر إيفانوفتش في 16 كانون الثاني 2018 في الجزء الشمالي (الصربي) من المدينة المقسمة كوسوفسكا ميتروفيكا، وضع كلا قضية أرض كوسوفو المتنازع عليها، وسياسات صربيا تجاه الغرب، وتحديداً الاتحاد الأوربي.
تعريب وإعداد: عروة درويش
إنّ حكومة صربيا الوكيلة للغرب (للاتحاد الأوربي وللولايات المتحدة) واقعة منذ وقت طويل جداً تحت ضغط مباشر من بروكسل من أجل الاعتراف بدولة الأمر الواقع كوسوفو، وذلك مقابل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ولكن ليس قبل عام 2025. وليس الأمر سوى مسألة وقت حتّى تقوم مستعمرة الغرب في صربيا بإعلان موقفها تجاه استقلال كوسوفو. لقد أعلن جميع دمى الغرب في صربيا بالفعل موقفهم الرسمي بشكل صريح بخصوص هذه المسألة: على حكومة صربيا أن تقوم في نهاية المطاف بإعلام الأمّة الصربية بأنّ كوسوفو لم تعد جزءاً من بلادهم بعد الآن، وأنّ اعتراف بلغراد باستقلال كوسوفو هو الطريق الوحيد تجاه المستقبل الأوربي «المزدهر» (واتفاق الناتو كذلك). أعلن عميل الغرب الأول في بلغراد: رئيس صربيا ألكسندر فوسيتش، مؤخراً بشكل صريح بأنّ على الأمّة ألّا تتفاجأ إن قامت صربيا بالاعتراف باستقلال كوسوفو من أجل أن تقوم بالخطوة الضرورية بالانضمام إلى «أوروبا» (رغم أنّه لم يشرح لماذا لم تنضم سويسرا أو أندورا أو موناكو أو النرويج أو أيسلندا إلى «أوروبا»).
ومن أجل الوقوف على «مسألة كوسوفو»، وتكوين فهم أفضل للحالة السياسيّة الراهنة التي تنتقد فيها «الديمقراطيات» الغربيّة الأمّة الصربية على محاولة الحفاظ على أراضيها وعلى هويتها الوطنية، فإنّ علينا أن نتطرق لبعض التاريخ والثقافة التي ستساعدنا في مهمتنا.
- تمهيد:
إنّ المقاطعة الجنوبيّة-الشرقية في جمهورية صربيا، والتي تحمل الاسم الإداري: كوسوفو-ميتوشيا (وهي كوسوفو فقط في اللغة الإنكليزية)، كانت واقعة في نهاية القرن الماضي في مركز العلاقات الدولية والسياسات العالمية، بسبب التدخل العسكري «الإنساني» للناتو الذي دام 78 يوماً، ضدّ جمهوريا يوغسلافيا الفدرالية (الجمهورية التي تشكلت من صربيا والجبل الأسود) في عام 1999 (ما بين 24 آذار و10 حزيران). ولأنّ هذا التدخل لم يتمّ التصديق والموافقة عليه من قبل مجلس الأمن في الأمم المتحدة، فقد أدّت العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة، والتي سمتها «ملائكة الرحمة»، إلى انتشار التساؤل عالمياً عن هدف وطبيعة هذه التدخلات «الإنسانية» في عدد من الأماكن حول العالم، مثل ما حدث في البوسنة والهرسك عام 1995 أو رواندا 1994 أو الصومال بين 1991 و1995. ولنكون أكثر وضوحاً، فقد أثارت هذه التدخلات «الإنسانية» المسلحة، مجموعة من التضاربات الأخلاقية والقانونية. فكما بدا واضحاً عام 2008، فإنّ تدخلات الناتو العسكرية عام 1999 كانت تهدف بشكل رئيسيّ إلى إرساء أسس استقلال كوسوفو وفصلها عن صربيا، وذلك بالتزامن مع تحويل هذه المقاطعة إلى مستعمرة سياسيّة واقتصاديّة لأوروبا والولايات المتحدة، وهي حقيقة كوسوفو اليوم.
- كوسوفو بوصفها أرضاً متنازعاً عليها بين الصرب والألبان:
مقاطعة كوسوفو-ميتوشيا (كوسوفا باللغة الألبانية)، هي منطقة تقع في وسط البلقان ولا إطلالة ساحلية لها. لديها حدود مع ألبانيا ومع جمهورية مقدونيا اليوغسلافيّة السابقة، ووسط صربيا والجبل الأسود. وهي بذات حجم الجبل الأسود، ولكنّها تحوي أربعة أضعاف عدد سكانها. وكوسوفو بوصفها أرضاً متنازعاً عليها بين الصرب والألبان، لم ولن تكون سماتها التي تربطها بهاتين الدولتين متساوية بأي شكل من الأشكال.
فبالنسبة للألبان، لم يكن لكوسوفو في أيّ وقت أهمية تزيد عن كونها أرضاً مأهولة لا ارتباطات ثقافية أو تاريخية معها، باستثناء حدث تاريخي وحيد هو الإعلان عن قيام أول عصبة سياسية قومية ألبانية في مدينة بريزرن في ميتوشيا (غرب كوسوفو) عام 1878، والتي استمرت حتّى عام 1881 فقط. وتمّ في حينه اختيار مدينة بريزرن لأهداف دعائية وحسب، من أجل التشديد على السمة «الألبانية» لبريزرن وكامل كوسوفو، وذلك رغم حقيقة أنّ الصرب كانوا يشكلون حتّى في ذلك الوقت الغالبية سواء بين سكان كوسوفو عموماً أو بريزرن خصوصاً. لم تكن كوسوفو جزءاً من ألبانيا أبداً، وليس هناك روابط ثقافية أو سياسية أو اقتصادية هامّة بينها وبين ألبان كوسوفو، ناهيك عن حقيقة أنّ معظم ألبان كوسوفو قد جاؤوا أساساً من جنوب ألبانيا بعد «الهجرة الصربيّة الكبرى» من كوسوفو عام 1690.
وعلى النقيض من ذلك، فإنّ كوسوفو-ميتوشيا تمثّل بقعة مركزية للصرب من ناحية الدولة والتقاليد والعادات والتاريخ والثقافة والكنيسة، والانتماء العرقي بكل تأكيد. فقد كانت العاصمة الإدارية والثقافية لصربيا في العصور الوسطى، وعاصمتها بريزرن. كما أنّ مدينة بيش «Peć» في كوسوفو، كانت المركز الإداري للكنيسة الأرثوذوكسيّة الصربيّة في العصور والوسطى وفي العصور اللاحقة في زمن العثمانيين. فقبل قيام الألبان بهدم الكنائس والأديرة الأرثوذكسيّة الصربيّة بدءاً من عام 1999، كان هناك حوالي 1500 معبد مسيحي صربي في الإقليم. لا يزال الصرب يقولون عن كوسوفو-ميتوشيا حتّى اليوم بأنّها «أرض الصرب المقدسة» وأنّ عاصمتها هي «المدينة القيصرية Tsarigrad» حيث انتصب هناك بلاط قيصر صربيا ستيفان دوسان بين عامي 1346 و1355.
وحتّى المساجد التي بنيت في العهد العثماني، والتي تدّعي ألبانيا بأنّها من ضمن إرثها القومي، لم يبنيها أشخاص ينتمون للعرق الألباني مطلقاً، بل قامت السلطات العثمانية ببنائها كجزء من سياساتها في المناطق التي كانت تحكمها، وليس هناك أيّ أغانٍ أو أناشيد شعبية ألبانية تشير إلى كوسوفو لا من قريب ولا من بعيد، بينما توجد منها العديد لدى الصرب. وجميع محاولات ألبانيا في الخمسين عاماً الماضية لتغيير أسماء المدن والإقليم ذاته حتّى بكتابتها ونطقها بالتعبير اللفظي للغة الألبانية، من أجل تثبيت ادعائهم بأنّ الألبان هم من بنوا كوسوفو، تبدو زائفة عندما ننظر إلى حقيقة أنّ كلمة كوسوفو هي كلمة سلافيّة (لغة الصرب)، وهي مشتقة بالغالب من كلمة صقر (كوس Kos)، بينما لا معنى لذات الكلمة في اللغة الألبانية بكل بساطة.
- كوسوفو في التاريخ الحديث:
بعد الحرب العالمية الثانية، منعت سلطات اتحاد الجمهوريات اليوغسلافيّة الشعبية عودة حوالي مائة ألف لاجئ صربي إلى منازلهم في كوسوفو-ميتوشيا بعد انهيار «ألبانيا الكبرى» عام 1945، والتي كانت كوسوفو جزءاً منها. ثمّ أصبحت كوسوفو-ميتوشيا بشكل رسمي جزءاً من جمهورية صربيا المنضوية تحت اتحاد الجمهوريات اليوغسلافيّة. ثمّ في عام 1974 منح رئيس الاتحاد تيتو إقليم كوسوفو-ميتوشيا وضعاً سياسياً مستقلاً بشكل كبير، حيث بات له حكومة مستقلة ومجلس تشريعي إقليمي ورئيس وأكاديمية علوم خاصة وقوات أمن وجامعة مستقلة، وحتّى نظام دفاع متمايز، ليصبح الإقليم بذلك متمتعاً بحكم ذاتي.
حكمت الإقليم ما بين عامي 1974 و1989 حكومة مؤلفة من الألبان فقط، فأذكت نار الصراع العرقي وطردت من الإقليم ما يقرب من مئتي ألف صربي وفقاً لبعض التقديرات. ثمّ في عام 1989 قام المجلس التشريعي لإقليم كوسوفو بالاتفاق وفقاً لسلطاته القانونيّة مع السلطات الصربيّة على إعادة إدماج الإقليم في جمهوريّة صربيا.