من يشكّل الأجندة| كارثة الإحسان الرأسمالي وتنميته وسطوته
«هذه السلسلة من المقالات هي خلاصة لدراسة طويلة وتفصيليّة عن ذات الموضوع، ويمكنكم الاطلاع عليها باللغة الإنكليزية من هنا».
تعريب وإعداد: عروة درويش
خلال العقدين الماضيين، تنامى قطّاع الإحسان من حيث: عدد المؤسسات الخيريّة، وحجم هباتها السنويّة، ومجال نشاطها. وفي حين أنّ معلومات تفصيليّة دقيقة عن إنفاقهم الكلي في التنمية الدولية غير متاحة للعموم، فإنّ التقديرات تتراوح ما بين 7 مليار إلى 10 مليار دولار سنوياً.
يتركز الإنفاق في قطّاعات محددة، وخاصة في قطّاع الصحة، بينما تبقى قطاعات أخرى ذات تمويل ضئيل. في عام 2012، أنفقت أكبر ألف مؤسسة خيريّة أمريكيّة حوالي 37% ممّا تخصصه للهبات الدولية على مشاريع القطّاع الصحي، و11% على مشاريع بيئيّة، و4% على مشاريع في مجال حقوق الإنسان.
وفي ذات الوقت أصبحت المؤسسات الخيريّة منخرطة بشكل متزايد في مقاربات وأولويات نظام مشاريع الأمم المتحدة. ففي نيسان 2013، أقامت الأمم المتحدة حدثاً خاصاً بدور الإحسان ومنظماته في إعداد جدول تنمية ما بعد 2015. وبالتزامن معه لخّص المنظمون:
«تنشط المنظمات الخيريّة في التعاون التنموي الدولي أكثر من أيّ وقت مضى، وقد أدركت القيمة الكبرى للتشارك مع بعضها البعض ومع غيرها من حاملي الأسهم. ففي حين يصعب تقدير مساهمتهم بشكل كلي بالأرقام، فإنّ المنظمات الخيريّة مؤهلة بشكل جيد لتلعب دوراً هاماً أكبر في معالجة تحديات التنمية المستدامة، وذلك عبر مقاربات خلاقة. وعليه، فإنّ هذه المنظمات تملك فرصة لتلعب دوراً حاسماً في تنفيذ جدول أعمال التنمية ما بعد 2015».
تلعب مؤسسة بيل وماليندا غيتس دوراً خاصاً في هذا المجال، حيث تتخطّى أصولها ومنحها السنوية بكثير مؤسسات خيريّة أخرى. وكذلك هناك مؤسسة الأمم المتحدة الخيريّة، وذلك تحديداً بسبب علاقتها الخاصة بالأمم المتحدة وعلاقتها القريبة من مجلس أمن الأمم المتحدة.
ومن المهم أن ندرك بأنّ هذه المشاركة الزائدة قد تمّ الترحيب بها وتشجيعها بكل تأكيد، وليس من قبل مجلس أمن الأمم المتحدة ورؤساء وكالاتها الأخرى وحسب، بل أيضاً من قبل العديد من الدول الأعضاء فيها، ليبدو ذلك إقراراً منهم بعدم قدرة الحكومات وحدها على حلّ مشاكل العالم. وبكل تأكيد، ترى بعض هذه الدول في الأمر وسيلة لتخفيف الضغط عن ميزانيات التنمية لديها أثناء الاستمرار في السياسات الضريبية والاستثمارية التي تعطي الأفضلية للأثرياء. حتّى الملياردير الأمريكي وارن بوفيه، صاحب مؤسسة بوفيه الخيريّة، تطرّق لهذا الأمر أثناء لقاء أجراه مع صحيفة النيويورك تايمز عندما أعلن:
«في حين أنّ معظم الأمريكيين يكافحون ليعيشوا بأجورهم لآخر الشهر، نستمرّ نحن الأثرياء جداً بالحصول على اقتطاعات ضريبيّة مذهلة. بعضنا مدراس استثمار يجنون المليارات من عمالتهم اليوميّة، ولكن يسمح لنا بأن نصنف مداخيلنا بأنّها ذات [فائدة محمولة]، فنحصل بذلك على صفقة بضرائب بمعدل 15%. يملك آخرون أسهماً مستقبليّة لمدّة 10 دقائق ليجدوا بأنّ عليهم دفع ضريبة بمعدل 15% عن 60% من أرباحهم إن تحولوا إلى مستثمرين طويلي الأمد. هذه الهبات وغيرها تمطر علينا من مشرعي واشنطن الذين يشعرون بأنّهم ملزمون بحمايتنا، كما لو أننا ننتمي إلى البوم أو إلى غيره من الأنواع المهددة بالانقراض. لقد تمّ تدليعنا أنا وأصدقائي لفترة طويلة من الكونغرس صديق المليارديرية».
فمع ازدياد انخراط المحسنين، وتحديداً المؤسسات الخيرية الكبرى، في التنمية، فقد أصبحت كذلك أكثر تعقيداً، بإعطائها حقّ الدخول والتأثير في العديد من القطاعات والبرامج. مع القليل، هذا إن وجد، من أطر المراقبة على آليات أدائها والرقابة على النتائج التي حققتها. فقد تبيّن لنا من الفحص المفصّل لاثنتين من أكبر المؤسسات الخيرية: مؤسسة غيتس ومؤسسة روكفيلر، في مجالات الصحّة والقضاء على الأوبئة، والجوع، والغذاء والزراعة، أنّ مسألة كيف عملوا وماذا حققوا تستحق إيلائها قدراً أكبر بكثير من الانتباه. فهي تشكل خطراً كما يلي:
أولاً: يمكننا أن نلاحظ غياب أيّ إطار لقياس النتائج، ولا أقصد هنا مدى تلبية البرنامج لأهداف المتبرعين، بل بمدى تلبيته لأهداف البرامج الأوسع والأطول مدى: مثل تحسين الحصيلة الصحية أو ضمان التغذية للجميع. يجب حقاً أن نعيد النظر في اتفاقات المتبرعين من أجل سدّ هذه الثغرة.
ثانياً: لاحظنا مشاركة هذه المؤسسات المتزايدة بالبرامج وأهدافها بنفسها بشكل مباشر، وبالتالي زيادة قدرتها على التأثير في تصميم هذه البرامج ونتائجها، وبالتالي المزيد من الاعوجاج الخطير في هذه المهام. وعليه فإنّ المحاسبة ليست مجرّد مسألة تقنية هنا، بل تنسحب على مسألة تفويض الأمم المتحدة ووكالاتها لهذه المؤسسات بالبرامج الموضوعة من قبلها. فبدلاً من أن تخدم الأطر الموضوعة مسألة التأكد من أنّ الأموال التي تساهم بها هذه المؤسسات تذهب بالفعل لتحقيق أهداف البرامج، يتمّ تشكيل أهداف البرامج لتلبي مصالح المتبرعين.
ثالثاً: هناك ما يتعلق بالتأثير على الحكم العالمي. فخلق ودعم الشراكة مع حاملي الأسهم المتعددين بات يضعف دور الحكومات والهيئات الحكومية في وضع المعايير وتشكيل جدول الأعمال التنموي المناسب لها، وهو ما يقوّض المسؤولية العمومية عن صناعة القرار، ويضعف بالتالي الحكم الديمقراطي.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني