التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة الذاتيّة
... كانت فترة الحرب (العالميّة الثانيّة) استثنائية بالنسبة للبلاد التي بالرغم من أنّها لم تشهد عملياً المعارك العسكرية الضارية والدمار، لكنها ساهمت في تموين الجيوش الحليفة في وقت كان باب الاستيراد شبه مغلق. فتجمعت في حوزة الدولة والطبقات المالكة، ولا سيما البرجوازية التجارية، أموال غزيرة بالقطع الأجنبي، وتكونت فئات اجتماعية حديثة من فنيين ومتعهدي أعمال وسواهم اكتسبوا خبرة في مجالات الإنتاج والإدارة. وتوسعت الفئات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة...
... وبطبيعة الحال، فإنّ تعظيم الفائض الاقتصادي في يد تلك الطبقات، وانخفاض مستوى الدخل لدى غالبية السكان، وامتلاء الأسواق بالسلع المستوردة، أدى سريعاً إلى تضييق السوق وبالتالي إلى الحد من التوسع الصناعي ذاته: انخفض الاستثمار في الآلات والتجهيزات الصناعية والزراعية بنسبة 37% وسطياً خلال أعوام 1956 – 1959 مقارنة بعام 1955، وتراجع نمو الإنتاج الصناعي السنوي إلى 4,8% وسطياً بالمقارنة مع 12% وسطيّاً في النصف الأول من الخمسينيات ذاتها. هذا في حين ارتفعت قيمة الصادرات من السلع الأولية، لا سيما صادرات القطن الخام، باستمرار فتضاعفت مرتين تقريباً خلال أعوام 1951 – 1956...
... كانت الأرستقراطية السائدة فقدت هيمنتها الإيديولوجية على الدولة والمجتمع، ثمّ جاء الإصلاح الزراعي وقوانين التأميم (قرارات يوليو الاشتراكية عام 1961) لتضع حدّاً لسيطرتها الاقتصادية والسياسية، ولم تكن محاولتها استعادة هذه السيطرة، خلال فترة الانفصال القصيرة، سوى معركة خاسرة سلفاً ومقدمة للضربة القاضية التي ستلغي وجودها كطبقة...
... لقد حققت الصناعة خلال الستينيات وبالرغم من الاضطرابات الاجتماعية والصراعات والتحولات السياسية والضغوط الخارجية الشديدة والهزيمة العسكرية، نمواً جيداً قدره 8 – 10% سنوياً. والأهم من ذلك أن هذا النمو قد اعتمد أساساً على الادخار المحلي والفائض الذي استولت عليه الدولة. وهذه نقطة جوهرية لابدّ من تسجيلها، إذ بقي التمويل الخارجي للاستثمار محدوداً (19% في الأعوام الأولى ولا شيء في عامي 1965 و1966) ومؤشر التبعية منخفضاً...
... بدأت القروض والمساعدات تتدفق نسبياً في أعقاب عدوان عام 1967 كما أشرنا، لكنّ كتلة الديون الخارجية بقيت محدودة نسبياً حتى عام 1970 (272 مليون دولار)، أمّا بعد ذلك فقد حققت قفزات متسارعة وتحولت إلى مديونية باهظة ذاتية النمو: 7,8 مليون دولار عام 1973 و4597 مليوناً عام 1980. وهذا دون حساب الديون العسكرية والمدنية للدول غير الأعضاء في البنك الدولي (الاتحاد السوفييتي بصورة خاصة) التي قدرت بنحو 15 مليار دولار، والمساعدات دون مقابل العربية وغيرها المقدرة بنحو 21 مليار ل.س للأعوام 1973 – 1979، وقيمة صادرات النفط 2,5 إلى 5,2 مليار ل.س سنوياً (1978 -1980)، وإرساليات العاملين في الخارج المقدرة في ميزان المدفوعات بنحو 600 إلى 900 مليون دولار سنوياً...
... انخفضت نسبة تغطية المستوردات من 80% (1963 – 1965) و58% (1966 – 1970) إلى 40 و43% في عامي 1977 – 1978 واستمرت في هذا المستوى بعد ذلك وحتى أواسط الثمانينيات. وبالتالي سجل مؤشر التبعية – قيمة التبادل الخارجي نسبة إلى الناتج المحلي – ارتفاعاً مخيفاً من 30% في النصف الثاني من الستينيات إلى نحو 50% في أواخر العقد التالي (نحو 35% للمستوردات وحدها)، 60% أو أكثر إذا أضفنا التبادل الخارجي غير النظامي الذي شكل خلال هذه الفترة، وخاصة بعد دخول القوات السورية إلى لبنان، نشاطاً مزدهراً وشبه رسمي يؤدي وظائف اقتصادية واجتماعية هامة: استكمال نواقص السوق الداخلية، إرضاء الحاجات الاستهلاكية للطبقات الوسطى والبرجوازية من السلع الترفيهية الخاضعة لرسوم مرتفعة أو الممنوعة، وتوفير بعض السلع الاستثمارية، وتهريب السلع التموينية ذات السعر المدعوم من خزينة الدولة إلى الدول المجاورة (أدوية، محروقات...)، تكوين وتوسيع فئات طفيلية من أصحاب النفوذ في بعض أجهزة الدولة ووسطاء كبار ترتبط بهم شبكات من المنتفعين: أصحاب حوانيت، موزعين صغار، باعة على الأرصفة وفي مناطق معينة معروفة (حدودية أو في أطراف المدن) وحتّى في الدوائر الرسمية ذاتها...
... إلّا أن هذا الاستثمار اعتمد بشكل متزايد على القروض والمساعدات الخارجية: نحو 25% عام 1968، 35% (1975)، 51% (1978) و60% في عامي 1981 – 1982. ممّا يدل صراحة على تزايد التبعية، من ناحية، وعلى هدر موارد القطاع الحكومي وضآلة قدرته على إنتاج الفائض وتحويله إلى ادخار منتج، من ناحية ثانية، وعلى مخالفة فاضحة لقانون خطة التنمية وأهدافها الاستراتيجية التي حددت نسبة التمويل الخارجي بحد أقصى قدره 19% و18% و13,7% في الخطط الخمسية (الثالثة وبعدها على التوالي)، من ناحية ثالثة...
... إن مجمل استثمارات القطاع الخاص خلال أعوام 1966-1970، أي مباشرة بعد التأميم، بلغت سنوياً نحو 239 مليون ل.س، تعادل 34% من مجمل تكوين رأس المال الثابت في الاقتصاد الوطني. وهذا الرقم يزيد عن مثيله خلال السنوات الأخيرة من الحكم البرجوازي (الليبرالي): 226 مليوناً سنوياً (1955-1958). وينطبق هذا بخاصة على القطاع الصناعي الخاص ذاته حيث بلغت حصته 30% من الاستثمار بالرغم من التأميم واسع النطاق، وما حددته له الخطة (5% فقط).
خلال أعوام الخطة الثالثة، ارتفع الاستثمار الخاص إلى الضعفين وشكل 35% من المجموع، وفي الصناعة 26%، بينما حددت له الخطّة 6,4% فقط...
... هكذا إذن رافق نمو البرجوازية "الحرّة" النمو الاقتصادي دون انقطاع. وإن كان التأميم قد قضى على نصف شرائحها العليا، لينشئ محلها فئات متوسطة وصغيرة، فإن هذه ما لبثت أن ازدهرت سريعاً. ممّا شكّل ظاهرة عكستها الصحافة في بداية السبعينيات (هيلان 1984 ص67) وحذر منها علناً أحد أعضاء القيادة السياسية للحزب الحاكم: //إنّ عدد من يملكون مليون ل.س في دمشق عام 1963 لم يكن أكثر من أصابع اليدين. وهم في عام 1973 أكثر من 500 شخص، ومن يملكون نصف مليون، ارتفع عددهم من 50 إلى أكثر من 5000//، هذا في عام 1973 وفي دمشق وحدها...
... لقد صدر خلال أعوام السبعينيات عدد من التشريعات الاستثنائية لصالح فئات اجتماعية معينة كانت جميعها مصدراً للتجاوزات وتوزيع الريوع وتوسع الفئات البرجوازية: قانون العفو عن الجرائم الاقتصادية (1971)، نظام الاستيراد الاستثنائي (الكوتا 1971)، إنشاء المناطق الحرة للصناعة (1971) الاستثناءات المتعددة الخاصة باستيراد السيارات السياحية (التي ارتفع عدد المستورد منها من نحو ألف سيارة سنوياً فيما بين 1963-1970 إلى 4000 سنوياً (1970-1975) إلى عشرة آلاف سنوياً (1975-1977) وسيارات "البيك آب" للأعمال التجارية والزراعية (التي ارتفع عدد المستورد منها من 810 عام 1972 إلى 22755 عام 1976)، وتسوية أوضاع السيارات المهربة، إنشاء الشركات المشتركة (عام 1975 وبعده...)، القرارات المتعلقة بتنظيم المدن والبناء، وغيرها. (هيلان ص33) ...
أزمة النمو التبعي وانتقاله إلى مرحلة أعلى:
بدأت تباشير الأزمة عام 1980-1981 بارتفاع سعر الدولار ثم تزايدت المصاعب والاختناقات يدفع بعضها بعضاً: ارتفاع متسارع في الأسعار، اختفاء السلع من السوق، توسع السوق السوداء، تزايد المضاربة بالعملة ومستلزمات الإنتاج، تزايد هجرة الأموال والكوادر...الخ.
أسباب الأزمة؟ بحسب أدبيات التنمية السائدة: أزمة المديونية العالمية وتراجع أسعار النفط...الخ. لكن هذا يخفي الجوهر: نمط النمو التبعي الاستهلاكي وعجزه البنيوي عن تكوين قاعدة أساسيّة لإنتاج الفائض اللازم للتراكم.
كانت معالجة الأزمة معروفة، هي تلك "المقترحة" من المؤسسات المالية الدولية والبرجوازية العالمية. وكانت نتائج هذه المعالجة معروفة جداً منذ قرن مضى، وأكثر قرباً، منذ عقد السبعينيات المنصرم، في مصر الشقيقة وغيرها من البلدان.
إنكار السبب الجوهري، إذن استبعاد مبدئي للبحث في أي بديل حقيقي يمس المصالح البرجوازية السائدة، وبالتالي ليس ثمّة سوى حل وحيد: الاستمرار في نمط النمو وتعميقه وصولاً إلى نهاياته. حاولت الدولة، خلال بضع سنوات اللجوء إلى حلول جزئية (اقتصاديّة وإداريّة) لمواجهة "المصاعب": إحداث السعر الموازي للدولار (1981) للمستوردات غير الأساسية (أول تخفيض خجول لسعر العملة بنسبة 35%) ومنع استيراد بعض السلع الترفيّة، ممّا دفع القطاع الخاص إلى إقامة "صناعات" بديلة (مواد تجميل وغيرها بتراخيص أجنبية)، ثم التوقف عن منح قطع أجنبي لمستوردات القطاع الخاص التي انخفضت بحدّة (1982-1986) ... وانخفضت كذلك مستوردات القطاع العام، وإن بنسبة أقل، أولاً، ثم بنسبة عالية بدءاً من عام 1985-1986 – حلت محل هذه وتلك سوق سوداء منظمة جدياً لجميع السلع دون استثناء: قطع أجنبي، مستلزمات إنتاج وسلع مصنعة على اختلاف أنواعها، وامتلأت الأسواق، علناً وأكثر من ذي قبل، بالسلع الترفيّة بما فيها الممنوعة – ممّا أحدث موجات متلاحقة في ارتفاع الأسعار ومنها بخاصة سعر الدولار الذي بلغ تسعة أضعاف سعره الرسمي عام 1987، وانخفضت بحدّة القوة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود.. وتسارعت هجرة الفنيين وأصحاب الكفاءات من قطاع الدولة وشاعت فيه الرشوة وأنواع الفساد والعمل المزدوج...
إذن المتضرر الأكبر من خفض الاستيراد كان القطاع الحكومي الذي أخذ يفقد، أكثر فأكثر/ حصته في الاستيراد لصالح القطاع الخاص والبرجوازية الطفيلية... وتضرر بشكل خاص القطاع العام الصناعي الذي انخفض إنتاجه إلى الحضيض وتوقفت عن العمل/ كليّاً أو جزئياً، الكثير من المصانع.
هل كان ذلك المقصود؟ الجواب: لا قطعاً، في رأينا. لكنّه كان مسموحاً به لضرورات السياسة: الأسواق المزدهرة ولو بأسعار فاحشة وتهريباً... أكثر راحة وأقل إثارة للتذمر من فقدان السلع، وبخاصة للطبقات والفئات التي تمتلك قوى شرائية كافية.
تراجع الإنتاج في القطاع الصناعي الخاص، لا سيما المنشآت والحرف التي كانت تعتمد على مستلزمات إنتاج تستوردها مؤسسات الدولة، كالحديد والخشب وغيرها، حيث انخفض الإنتاج بشكل مأساوي ثم تراجع القطاع العام الصناعي، وبعض شركاته توقفت تماماً عن الإنتاج (تليفزيون، جرارات...). وانخفض معدل النمو وغدا سالباً، وفي عامي 1984-1985 سمح للتجار بفتح حسابات رسمية في المصرف التجاري بالقطع الأجنبي لتمويل مستورداتهم. فنشأت أنواع من التصدير الوهمي، وفتح الباب للتصدير الخاص في إطار اتفاق المدفوعات (تسديد الديون للاتحاد السوفييتي...)، إلخ، حيث جنى منه المصدرون ثروات ضخمة...
كانت الأزمة عندئذ قد بلغت قمتها فودت الدولة نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات أكثر جذرية بالاتجاه الوحيد الممكن، الاتجاه المطابق لخط السير الذي ترسخ خطوة خطوة خلال السنوات الطويلة السابقة، اتجاه البنك الدولي: اعتماد سياسة "تقشفية" على حساب الطبقات الوسطى والجماهير الفقيرة، خفض موازنة الدولة، ومنها بخاصة النفقات الاجتماعية ومخصصات الدعم التموينيّة، رفع الأسعار، إحداث السعر التشجيعي للدولار ليواكب سعره في السوق السوداء (1986)، ثم خفض قيمة العملة الوطنية بنسبة 65% (1987) وخفض الأجور الفعلية وتسريح جزء من العمال، خفض مستوردات القطاع العام.. كما اتخذت إجراءات لفتح الباب أكثر أمام القطاع الخاص التجاري والصناعي لإعطاء أفضلية مطلقة للتصدير من أجل الحصول على القطع الأجنبي، وتشغيل بعض منشآت القطاع الحكومي لحساب القطاع الخاص والحد من تشغيل أو توسيع بعضها الآخر لصالحه، ووقف إصدار الخطّة الخمسية وتكثيف الجهود في استخراج النفط وتوسيع القطاع المشترك... وتوّج هذا الاتجاه قانون الاستثمار (رقم 10 لعام 1991) الذي منح امتيازات استثنائية للقطاع الخاص.
كل هذه الإجراءات المتلاحقة، إنما تحمل دلالة واضحة بالغة الأهمية: تعويم الاقتصاد الوطني ورمزه الأبرز، النقد... وبالتالي تقليص قدرة الدولة على ضبطه وتوجيه حركته، وتعميق دمجه في السوق العالمية، وزيادة تأثير البرجوازية عليه.
وغدا القطاع الصناعي الخاص والبرجوازية الصغيرة والحرفيين، الذين كانوا يعتمدون، في تموينهم بمستلزمات الإنتاج، على مؤسسات الدولة، غدوا يتوجهون إلى التجار والمهربين للحصول عليها من أجل تشغيل ورشهم ومعاملهم – بأسعار باهظة طبعاً – بل غدا القطاع الحكومي ذاته يلجأ إلى السوق لسد بعض مستلزماته من السلع المستوردة.
ولا يخفى ما يمكن أن يكون لهذا التغيير من مدلول سياسي في فك علاقة الارتباط بين القطاع الواسع من البرجوازية الصغيرة والحرفية، من ناحية، والقطاع الحكومي، من ناحية أخرى، وتحويل هذه العلاقة إلى البرجوازية التجارية.
منذ بداية الثمانينيات، ولاسيما بعد 1985، تزايدت الاستثمارات بشكل ملموس في القطاع الصناعي الخاص حيث أنشئت مصانع كثيرة، برأسمال سوري أو مهاجر أو أجنبي. لكن معظمها كان منشآت صغيرة (متوسط رأس المال للواحدة أقل من 100 ألف دولار) بحسب التراخيص التي حصلت عليها من وزارة الصناعة. من ناحية أخرى، فهي من نوع صناعات اللمسات الأخيرة، التي تعمل بتراخيص وأسماء تجارية من الشركات العالمية، وبالتالي تشكل نوعاً من الورش الفرعية لها: عطور ومواد تجميل وأدوية وألبسة فاخرة وما شابه ذلك، موجهة لاستهلاك الطبقات الموسرة، وبخاصة للتصدير إلى بلدان الكتلة الشرقية وإلى بلدان الخليج العربي وغيرها.
أمّا بعد صدور قانون الاستثمار (عام1991) فقد حقق القطاع الخاص الصناعي قفزة جديدة. إذ تشير المعلومات المتوفرة إلى أنّه حتى خريف 1993 تمّت الموافقة على إنشاء 980 مشروعاً بقيمة إجماليّة 154 مليار ل.س (3,6 مليار دولار) وهو رقم ضخم نسبياً، منه في القطاع الصناعي 398 مشروعاً رأسمالها المقدر 61 مليار ل.س (40% من المجموع). القسم الأعظم من هذه المشاريع في الصناعات الغذائية والنسيجية (57%) وفي الصناعات المعدنية ومنتجاتها (22%) وقد نفذ من هذه المشاريع خلال عامي 1991-1992، 33 مشروعاً في الصناعة والزراعة قيمتها 3,9 مليار ل.س.
لاحظ أن هذه المشاريع الصناعية الموافق عليها تتميّز بحجمها الكبير مقارنة بالمشاريع التي تقام خارج هذا القانون. حيث تبلغ حصّة الواحدة منها وسطياً نحو 3,6% مليون دولار و71,5 عاملاً (وترتفع في قطاع النسيج إلى 4ملايين، و112,5 عاملاً).
المشاريع الأخرى الموافق عليها تقع في قطاع النقل 568 مشروعاً رأسمالها يشكل 48,5% من المجموع. وقد نفذ منها 44 مشروعاً برأسمال 6 مليارات ل.س (66% من مجموع الرأسمال المنفذ).
لقد أحدثت الاستثمارات المذكورة تغيراً في بنية تكوين رأس المال الثابت في الاقتصاد الوطني ككل لصالح وسائل النقل التي ارتفعت حصتها من 4,8% إلى 23,9% فيما بين 1988 و1992 وحصّة القطاعات الأخرى (تجارة، خدمات...) من 19,1% إلى 27,6% بينما انخفضت حصّة الصناعة والتعدين من 27,3% إلى 20,4% ...
إذن خلال بضع سنوات، حقق القطاع الخاص قفزة كبيرة، قد تكون نوعية، قلبت العلاقة بينه وبين قطاع الدولة رأسا على عقب حيث ارتفعت حصته فيما بين 1985 و1989-1991 من 15% إلى 50% في الاستيراد، ومن 9% إلى 46% في التصدير، ومن 34% إلى 55% في مجمل الاستثمار، ثم ارتفعت هذه الأخيرة إلى 66% في عام 1992 مقابل 34% لقطاع الدولة.
في عام 1992، وفي القطاع الصناعي بالذات بلغت حصة القطاع الخاص: من الإنتاج الإجمالي 58% ومن القيمة المضافة 61% (1989)، ومن عدد العمال 54% (144 ألف عاملاً من مجموع 267 ألفاً)، وعدد منشآته خمسين ألفاً (1989) منها 760 كبيرة تشغل عشرة عمال وأكثر (وسطي 14,6 عاملاً في المنشأة الواحدة)، لكن 76% من المجموع منشآت صغيرة جداً (3 عمال وأقل) (معلومات خاصة).
بطبيعة الحال، إذا استمرت الأمور على هذه الوتيرة بضع سنوات أخرى، تكون البرجوازية قد استعادت دورها السابق بحيث تكون قادرة على إحكام سيطرتها على الاقتصاد الوطني، وينتقل القطاع العام من كونه القطاع القائد إلى دور أكثر تواضعاً. ونكون قد وصلنا بوساطة الدولة والتأميم إلى أحضان الرأسمالية التي هدفت ثورة البعث أصلاً إلى تجاوزها...
... ونتيجة ذلك كله، فإن قطاع الدولة وقع فريسة تناقض أساسي بين شكله القانوني كملكية عامة، كقاعدة للتراكم ولتحقيق مصالح المجتمع من ناحية، ومضمونه الاجتماعي الدولوي الخاص، كما تحدده مراكز النفوذ الداخلية والخارجية من ناحية ثانية، وبالتالي خرجت حركته – توسعه وإدارته وفوائضه – عن العقلانية الاقتصادية العامّة، وأخُضعت للمنطق السياسي، لضمان ولاء الفئات الاجتماعية المؤثرة وتوسيع قاعدة الشرعية، والتوافق مع العلاقات الدولية...
في ضوء مثل هذا التحليل، تصبح الخصخصة استكمالاً لمرحلة تحرير المستعمرات أي استكمالاً لمقتضيات السوق الدولية المعولمة حيث تنفتح المجالات القومية أمام التنافس الحر للقوى الفاعلة في هذه السوق كافّة، دون أيّة تفرقة أو حواجز سياسيّة داخلية أو خارجية. غير أنّ العولمة ما زالت تعترضها عقبات كثيرة، أهمها وجود الدول القومية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية المستقلة، من ناحية، وظاهرة الاستقطاب الناجمة عن الطبيعة المبتورة للسوق العالمية (سمير أمين)، من ناحية ثانية.
*عن «المجتمع والدولة في ظلّ السياسات الرأسماليّة الجديدة» عام 1998.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني