صلابة الموقف الروسي في الأزمة السورية
هدفت إدارة اوباما في "التبرع" بالإعلان عن غارتين "إسرائيليتين" متتاليتين على سورية الى استعادة زمام المبادرة على الصعيد الدولي وإلقاء تهمة التردد والارتباك بعيدا،
وأيضاً طمأنة خصوم الإدارة الداخليين، وهم كثر، إلى قدرتها على ممارسة دورها الرئيس في القضايا والتحديات العالمية، خلافا للاتهامات بتراجع نفوذها وتقويض وحدانية زعامتها في العالم قاطبة. ورمت الى استثمار نتائجها المرجوة في ممارسة مزيد من الضغوط على روسيا عشية اللقاءات الرسمية بين وزير الخارجية جون كيري ونظيره الروسي كما والرئيس فلاديمير بوتين.
لم يعد خافيا الخطورة الكامنة في شن الغارة "الاسرائيلية،" سيما لاستبعادها فرضية قدرة الدولة السورية على شن هجمات انتقامية، فضلا عن مفاقمتها للوضع الاقليمي وتعريضه الى نشوب حرب اخرى شاملة مع دخول العامل الروسي بقوة هذه المرة.
البيانات الغربية الصادرة عن عدد من العواصم واكبت الرواية "الاسرائيلية" لهدف الغارة بالزعم انها أتت لاعاقة ومنع تسليم اسلحة متطورة الى حزب الله عبر سورية، سيما المنشأة المستهدفة التي يعتقد انها كانت تخزن صواريخ فاتح-110 الايرانية ونظيرها السوري M-600.
البيان الرسمي السوري الصادر عن وزارة الخارجية افاد ان الغارة اصابت ثلاثة مواقع عسكرية: في ضاحية جمرايا القريبة من دمشق، وميسلون، ومطار لطائرات شراعية في الديماس بمحاذاة الحدود اللبنانية.
ما تشير اليه الغارات المتكررة هو تطور القرار "الاسرائيلي،" بمباركة اميركية على الارجح، من خانة تقديم الدعم سرا للقوى المسلحة المعارضة الى الانخراط المباشر رسميا والتعويض عن الارتباك الذي اصابها بعد خساراتها المتتالية لمواقع ميدانية وتكبدها خسائر بشرية عالية على ايدي الجيش العربي السوري؛ كما تشير الى عزمها على اعتراض الامدادات العسكرية وغيرها المتجهة غربا لحزب الله، مهما كلف الثمن.
المعادلة "الاسرائيلية" قبل الغارات الاخيرة لم تستبعد بقاء النظام السوري وما تعرض له من تدمير في مختلف المناحي والطاقات، واستعدادها للتعامل مع هذا الأمر على قاعدة عدم قدرته التحرك او المساعدة لمواجهة "اسرائيل." واعلنت عن ذلك مرارا سيما وان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو حذر سورية المرة تلو الاخرى من مغبة تسليمها حزب الله اسلحة كيميائية او اخرى متطورة، الذي اعتبره خطاً احمرا. في المقابل، اعتبر بعض الخبراء الاميركيين ان عدم التيقن من مستقبل الرئيس السوري قد يدفع بحزب الله وايران لحث الخطى وتكثيف تحركاتهما لنقل الاسلحة المتطورة الى داخل الاراضي اللبنانية.
الغارات "الاسرائيلية" وجهت رسائل متعددة لسورية وحلفائها، وعلى رأسهم روسيا التي تعزز حضورها بقوة في مياه المتوسط وما ينطوي عليه من حضور مكثف في الاقليم يواجه جهود تركيا المتواصلة للحد منه.
سورية وروسيا
استطرادا، فان اي تهديد موجه لسورية هو ايضا موجه لروسيا ولاسلحتها وقاعدتها البحرية في طرطوس السورية. كما ان استمرار الصراع المسلح في الداخل السوري يشكل تهديدا لاهداف السياسة الخارجية الروسية بعيدة الامد. توتر العلاقة بين القوتين العظميين، روسيا واميركا، يجد صداه جليا في المعادلة السورية: اصرار الولايات المتحدة على المضي بتسليح قوى المعارضة بكافة الانواع ومراهنتها على الخيار والحسم العسكري، المعادلة الصفرية، استدعى روسيا للوفاء بالتزامات تعهداتها واتفاقياتها العسكرية لاستمرار توريد الاسلحة الى سورية وتعزيز سلطات الدولة. من المرجح ان يسهم الاعتماد التسليحي لسورية على روسيا ومنظوماتها المتعددة في استمرارية نفوذ روسيا لأمد منظور حتى ولو تعدلت تركيبة الحكومة السورية مستقبلا.
كما ان روسيا لم تخفِ ضيق ذرعها من تشدد الموقف الاميركي واصراره على المعادلة الصفرية في سورية، بالرغم من كل ما تبذله الاولى من جهود لترجيح الحل السياسي التفاوضي، ولعبة التوازنات الاقليمية الدقيقة بينهما، سيما وان الولايات المتحدة لم تفي بوعودها للجم تدفق الاسلحة الى ايدي المجموعات المسلحة المختلفة، بالمعدات والموارد وجهود التدريب. كما ان الطرفان يدركان سوية اهمية تقديم تنازلات محددة متبادلة، وكل ينتظر الآخر لاتخاذ الخطوة الاولى بهذا الاتجاه.
ثابرت روسيا على تحمل منغصات الدول الغربية واتهامها بتقديم الحماية للدولة السورية، وردت باتهام مماثل لاولئك الذين يسعون "لتسييس المسألة" السورية والذهاب بعيدا لتوسيع جهود التحقيق في استخدام الاسلحة الكيميائية توطئة لشرعنة فرق التفتيش الغربية لتصول البلاد جيئة وذهابا. واوضح نجم الخارجية الروسية سيرغي لافروف انه كان من المفترض وصول خبراء الى سورية للتحقيق في امكانية استخدام اسلحة كيميائية في منطقة خان العسل بحلب؛ وبدلا من الالتزام باطار المهمة سعى اعضاؤها للمطالبة بتسهيلات الدخول الى كافة المنشآت السورية وحقها في اجراء مقابلات مع اي مواطن سوري. واردف لافروف "اعتقد ان هذا تجاوز للاطار."
كما رد الجانب الروسي على التشدد الاميركي بحصافة ديبلوماسية قبيل لقاء وزير الخارجية الاميركية جون كيري في موسكو بركنه جانبا ينتظر لقاء الرئيس فلاديمير بوتين لفترة زمنية، حسبما تناقلت وسائل الاعلام العالمية. اذ تقصدت الى اظهار مدى استياء الجانب الروسي من الموقف الاميركي وللتعبير عن مدى الثقة باحراز بعض النجاحات في سياستها الخارجية.
ينبغي الاشارة في هذا الصدد الى الاعلان الروسي الاميركي المشترك عنوانه انشاء حكومة انتقالية في سورية كثمرة انجاز للسياسة الخارجية الروسية في الشأن السوري، اذ ان اعلان التفاهم يوحي الاقدام على خطوة مقبلة تم الدعوة لها منذ زمن، وفي نفس الوقت اتاحة فسحة زمنية لروسيا في المضي بدعمها للدولة السورية. كما من شان الاعلان توفير الاعذار للرئيس اوباما بعدم الانجرار وراء دعوات اقطاب الحرب للتدخل المباشر في سورية.
اما داخل المؤسسة الاميركية الحاكمة فقد رحب البعض بالاعلان كونه يمثل خطوة روسية للابتعاد عن الرئيس الاسد، بيد ان الامر لا يعدو سعيا للحفاظ على ماء الوجه ولا يمثل نقطة تحول سياسية محددة في السياسة نحو سورية.
الخيارات الروسية
بروز تركيا الطاغي في الاقليم لا ينوي مزاحمة قوى عربية تقليدية مثل مصر، بل يتعداها الى الحد من تمدد النفوذ الروسي. وعليه يمكن تلمس معايير المشهد والخيارات المتاحة لروسيا على الشكل التالي:
الخيار الاول يكمن في تبني استراتيجية الطرف "الرابح يستحوذ على الكل" مما يستدعي تكثيف الدعم الروسي للدولة السورية. اذ لا زال التماسك في اقطاب الدولة السورية هو الاقوى، ويسيطر على معظم اجزاء الدولة. مع استمرار تدفق الدعم الروسي للرئيس الاسد ودعم الدولة من قطاعات واسعة من الشعب السوري، يتعذر تحقيق مطلب اسقاط الدولة. حينئذ، ما يتعين على روسيا فعله لا يتجاوز المراوحة والانتظار والمناورة السياسية لافشال مخططات الدول الخليجية لدعم المعارضة المسلحة.
واستطرادا، ستستمر روسيا في جهودها لحرف بوصلة الهجمات الديبلوماسية وطرح خيارات ديبلوماسية موازية للحل بصورة علنية، وفي نفس الوقت الاستمرار في دعم الدولة السورية باشكال متعددة. اذ من شأن دخول نظم دفاعات جوية متطورة على المشهد الميداني تحييد فعالية اسلحة الطيران لدول حلف الناتو و"اسرائيل،" التي رغم خطورتها فانها تتراجع امام التهديدات التي تمثلها قوى المعارضة المسلحة على سلامة الدولة ومرافقها. الدعم بالمعدات التقليدية كالمدرعات والذخيرة قد تعود بفائدة اكبر على تدعيم مقومات الدولة السورية. كما باستطاعة روسيا امداد سورية بقوات للمهام الخاصة، وتشغيل نظم الدفاعات الجوية بأطقم فنية روسية الامر الذي سيفرض معادلة اخرى على دول حلف الناتو و"اسرائيل" لشن غارات مقبلة على سورية. كما من شأن تلك القوى والاطقم الروسية المخولة بحماية المطارات العسكرية والموانيء البحرية تخفيف الضغط عن اعباء المهام الملقاة على عاتق القوات المسلحة السورية وتسخير جهودها للعمليات القتالية والمواجهات العسكرية، فضلا عن توفير تدريبات مكثفة للميلشيا الشعبية السورية التي اعلن عن انشائها في اعقاب الغارة "الاسرائيلية،" لمهام معارك المدن وعمليات مكافحة المتمردين.
النجاحات الروسية طويلة الامد تستدعي موازنة اهدافها ايضا مع الاهداف الايرانية، الشريك الآخر لسورية. اذ بينما تنظر روسيا لسورية كشريك باستطاعته مناوءة تركيا وحسر تقدمها ونفوذها في منطقة البحر المتوسط، تجد ايران في سورية دولة مواجهة في خط الدفاع الاول في سياق حربها مع "اسرائيل،" كما لا تنوي روسيا ايجاد الذريعة "لاسرائيل" للانخراط في الحرب الدائرة في سورية ودخولها الى جانب المعارضة المسلحة، والبقاء خارج دائرة الصراع بينما تمضي هي في تدعيم الدولة السورية بشحنات الاسلحة.
في المجمل، فان خيار "الرابح يستحوذ على الكل" يوفر اكبر الانجازات والمكاسب لروسيا، سيما وان الرئيس الاسد يدين لروسيا مقومات البقاء للدولة ومؤسساتها سيكون اكثر استعدادا للتعاطي مع مطالب روسيا لتجذير نفوذها في المنطقة، لتشمل قواعد بحرية وجوية لها، على شواطيء المتوسط وحماية خاصرتها الجنوبية من ابتزاز تركي، خصمها التاريخي، الامر الذي سيعزز من خيارات روسيا لمواجهة التحدي المرئي والذي قد يشمل نشر قوات روسية داخل سورية او ربما تنشيط عمليات المقاومة الكردية لاستدراج واشغال وحدات الجيش التركي، وفرض موقف حيادي على القادة الاتراك في النزاع الدائر. ومن شأن هذا التوجه ان يحدث تصدعا في الجبهة الجنوبية لحلف الناتو.
تضافر مجموعة من العوامل سابقة الذكر، ربما تشكل ارضية لمراهنة روسيا على دعم سورية وعدم انحنائها للضغوط الدولية المتعددة والمكثفة في آن لتقييد حركتها في دعم الدولة السورية.
في المقابل، مطلب الغرب مما يتعين على روسيا القيام به سيؤدي بالضرورة الى تشظي وتقسيم سورية الى مناطق نفوذ متناثرة مع قبوله لمنطقة ساحلية تخضع لنفوذ الرئيس الاسد؛ امر ترفضه روسيا ليس بدافع تقييد حركتها في مياه المتوسط في مواجهة تركيا فحسب، بل لكونه يشذ عن تحقيق انتصار واضح.
الخيار الاخر، نظريا، هو النأي بالنفس والتخلي عن سورية وتركها تواجه مصيرها بمفردها امام حملة غربية واقليمية منظمة؛ وهو خارج عن التداول الحقيقي في اروقة السياسة الروسية لما يمثله من مخاطر استراتيجية لوقوع سورية تحت سيطرة غربية تركية ودول خليجية. بل الاخطر، لما سيمثله من انعكاسات على الاطراف الحليفة والصديقة لروسيا وما يمكنهم المراهنة عليه.
محصلة استعراض الخيارات السابقة يؤدي لارساء ارضية فهم وادراك افضل لتصميم روسيا على دعم الدولة السورية؛ وما يمثله من تتويج لاهداف سياسة خارجية من الزمن الغابر، منذ الامبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي والدولة الروسية الحديثة، لتحييد النفوذ التركي والفوز بموطيء قدم على مياه البحر المتوسط.
اثبتت السياسة الروسية، مرة تلو الاخرى، انها تمارس رؤية تتحلى ببعد النظر والامد الطويل، بخلاف الاطراف الاخرى المنخرطة في الصراع الدائر في سورية وعليها التي تنحو باتجاه تحقيق انجازات سريعة وقصيرة الاجل؛ وهي ميزة رافقت كل من اعتلى منصب الكرملين من القياصرة والسكرتاريون العامون والرؤساء.