مداخلة أحمد الديين في ندوة الحزب الشيوعي اللبناني حول مشروع الوثيقة السياسية المقدمة لمؤتمره الحادي عشر
أحمد الديين أحمد الديين

مداخلة أحمد الديين في ندوة الحزب الشيوعي اللبناني حول مشروع الوثيقة السياسية المقدمة لمؤتمره الحادي عشر

(بيروت الأحد 10 يناير/ كانون الثاني 2016)

بالتأكيد فإنّ هناك جهداً كبيراً بذله الحزب الشيوعي اللبناني في إعداد مشروع الوثيقة السياسية المقدمة للمؤتمر الحادي عشر، وهي وثيقة هامة تتضمن مقاربات موضوعية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان والمنطقة العربية والعالم، كما تتضمن خطوطاً عامة ذات لنهج الحزب وسياسته ومواقفه، ولاشك أنها ستكتمل عبر التداول الجماعي خلال المؤتمر.


وفي ظني أنّ الوثيقة السياسية تستحق تسميتها بعنوان أفضل من عنوانها "الحاف" بحيث يعبر هذا العنوان عن مضمونها، كأن يكون عنوان الوثيقة مثلاً "مشروع البديل الديمقراطي التقدمي"، أو "التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحزب الشيوعي اللبناني من أجل التحرير والتغيير الديمقراطي"، أو غير ذلك من التسميات.
ومن حيث التبويب، فلعله من المناسب التفكير في التخلي عن النهج المتبع في إعداد معظم أحزابنا الشيوعية لوثائقه السياسية، الذي يبدأ بالوضع الدولي، ثم العربي، وينتهي بالوضع المحلي، اتباعاً لما كانت عليه وثائق الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي،  الذي كان بوصفه حزباً حاكماً لدولة عظمي ذات نفوذ عالمي، ينطلق من تحليله للوضع الدولي، بينما الأمر مختلف بالنسبة لنا، حيث الوطني المحلي يفترض أن يكون أولاً... ولا يعقل في وثيقة للحزب الشيوعي اللبناني مكونة من 120 صفحة أن يبدأ القسم الخاص بلبنان في الصفحة 64 مسبوقاً بتناول الوضعين الدولي والعربي، وهذا ما يفترض بنا نحن الشيوعيين العرب أن ننتبه إليه في صياغة وثائقنا السياسية التي تكتسب قيمتها من صلتها بواقعنا المعاش والدائرة المباشرة لنضالنا.
وإذا انتقلنا إلى صلب الوثيقة فنجد أنّ هناك ملاحظة عامة تتكرر في توصيفها للمراحل التاريخية للأوضاع الدولية والعربية والمحلية، ففي الصفحة الخامسة جرى وصف المرحلة التي يمر بها عالمنا بأنها مرحلة انتقالية تاريخية، مرحلة الانتقال من النظام العالمي الأحادي الجانب إلى نظام متعدد الأقطاب، وفي الصفة 9 عند الحديث عن سمات المرحلة الراهنة للعصر الإمبريالي فقد جرى وصفها بأنها مرحلة متوترة... وكذلك عند تناول الوضع العربي نجد أن الوثيقة في الصفحة 30 تشير إلى أنّ العالم العربي، ومعه منطقة الشرق الأوسط، يمر بمرحلة انتقالية خطيرة... ويتكرر الأمر عند تناول الوضع اللبناني ففي الصفحة 64 تتحدث الوثيقة عن أن لبنان يمر راهناً بمرحلة من أدق مراحل تطوره وأشدها خطراً على استقلاله، بل وجوده... وهذا كله صحيح، ولكن ما هو محتوى هذه المراحل دولياً وعربياً ولبنانياً؟... وما هي مضامينها؟... وإن كانت مراحل انتقالية فهي انتقالية من ماذا إلى ماذا؟... ومن جانبي أرى أنّ طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها عالمنا وبالتالي طبيعة عصرنا الراهن تتمثل في نهاية المطاف، وبغض النظر عن موازين القوى في كونه عصر الضرورة التاريخية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وذلك في ظل تفاقم التناقضات في العالم الرأسمالي المعاصر والنظام الإمبريالي... أما في منطقتنا العربية وبالتالي في لبنان فإنّ محتوى المرحلة التاريخية التي تواجهنا هي مرحلة النضال من أجل إنجاز مهام التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي والتغيير الديمقراطي... ولا يكفي القول إنها مرحلة انتقالية أو مرحلة متوترة أو خطيرة.
وكذلك الحال عندما يتناول مشروع الوثيقة السياسية أزمة الرأسمالية، حيث تتكرر توصيفات "الأزمة الاقتصادية المالية الرأسمالية العالمية"، ويقال كذلك بحق إنها "تتضمن كل مزايا وخصائص الأزمات السابقة وتضيف إليها مزايا جديدة"، وتوصف بأنها "أزمة منظومية"، وبأنها "أزمة افتتحت طوراً جديداً في حياة البشرية هو طور الأزمات العالمية الموحدة"، وأن "طابعها مركب بحيث لن تعود تقع أزمات فائض إنتاج لوحدها، أو أزمة بنيوية لوحدها، أو أزمة قطاعية لوحدها"، كما توصف بأنها "أزمة مستدامة"، وهذه جميعاً توصيفات صحيحة، ولكنني استغرب تجاهل التوصيف الأدق والأشمل بالقول إنها أزمة عامة، ما عدا مرة واحدة يرد فيها هذا التوصيف في عنوان بالصفحة 24.
وفي هذا السياق فإنّ مشروع الوثيقة السياسية على الرغم من كل توصيفاته لأزمة الرأسمالية إلا أنه يستسلم إلى منطق تعذر إسقاط الرأسمالية حالياً كما في الصفحة 16، وهذا استنتاج يفترض بنا كشيوعيين ألا ننساق وراءه، بل لعلّه من الأنسب طرح الأمر على النحو التالي، وهو إنّ الأزمة العامة للنظام الرأسمالي العالمي على الرغم من محاولات الرأسمالية إطالة عمرها وتجديد نفسها إلا أنها يمكن أن تتحول إلى أزمة نهائية إذا توافر العامل الذاتي للتعامل مع الظرف الموضوعي الآخذ في النضوج باتجاه انهيار النظام الرأسمالي، ذلك أنّ الرأسمالية لا تستطيع الخروج من أزمتها الحالية بالطريقة ذاتها التي خرجت فيها من أزماتها السابقة في القرن العشرين حيث تفاقمت تناقضات الرأسمالية بحيث يصعب عليها تجاوز أزمتها العامة.
 وأما ما تناوله مشروع الوثيقة السياسية عن نتائج انكشاف الأزمة العامة للرأسمالية، وهذا هو الوصف الدقيق، وحديثه عن اللقاء العالمي للأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، فهو صحيح تماماً، فمثلما جاء في المشروع فإنّ الأحزاب الشيوعية لا تزال ضعيفة وعاجزة عن انتزاع المبادرة واستغلال لحظات الأزمة الراهنة للرأسمالية المعولمة... وربما من المفيد الإضافة هنا إلى أنّ الحركة الشيوعية والعمالية في عالمنا اليوم، علاوة على ما سبق، فقد أصبحت منقسمة فكرياً وسياسياً وتنظيمياً على المستويات العالمية وربما أحياناً في كل بلد، والمفارقة أنها أصبحت كذلك في مواجهة الرأسمالية المعولمة.
واستعرض مشروع الوثيقة السياسية ما أسماه انتفاضه أميركا اللاتينية والتحولات السياسية التي قادتها قوى يسارية وطنية وصلت إلى السلطة بالطرق الديمقراطية، ولكني أرى أنّنا يجب أن نتخلى عن بعض الأوهام الخادعة حول هذه التجارب، على أهميتها، وأن ننطلق من منظور نقدي تجاهها، سواء تجارب  اليسار في أميركا اللاتينية أو سيريزا اليونان أو الرئيس اليساري الجديد لحزب العمال البريطاني أو حتى المرشح الرئاسي الأميركي الاشتراكي الديمقراطي الذي أصبح منافساً جدياً بيرني ساندرز... ذلك أنّ هذه التجارب في أميركا اللاتينية لم تغير من حقيقة أنّ السلطة السياسية الفعلية ووسائل الانتاج وكذلك وسائل الإعلام لا تزال في أيدي الطبقة البرجوازية، فيما يدير اليسار الحكومة أو البرلمان من دون أن يتمكن من إحداث التغيير الثوري.
وعلى المستوى العربي، تحدث مشروع الوثيقة السياسية عن دور القوى الرجعية والطفيلية وبعض الأجهزة القعمية التي سارعت إلى التركيز إعلامياً، على "الطابع العفوي" للانتفاضات الشعبية... وأظن أنّ الطابع العفوي للانتفاضات الشعبية ليس مجرد تناول إعلامي رجعي، وإنما واقع هذه الانتفاضات الشعبية أنها كانت انتفاضات عفوية، إذ كانت بلا بدائل واضحة ولم تقدها الأحزاب، خصوصاً في ظل الوضع المختل لقوى اليسار، ولذلك كان من السهل الالتفاف عليها وتخريبها وتشويه طبيعة الصراع... فهذا واقع موضوعي جرى استغلاله، ولا يصح أن نكتفي بالقول إنه مجرد تركيز إعلامي رجعي!
وأشيد هنا بالتحليل الدقيق الوارد تحت عنوان "خامساً: القوى المضادة وسبل مواجهتها" بدءاً من الصفحة 48، وما ورد تحت عنوان "سادساً: أزمة الرأسمالية اللبنانية" بدءاً من الصفحة 79، والذي أظن أنه يجب أن يتقدم على بعض الأقسام، فهو يتضمن ما يميزنا من حيث التحليل الطبقي.
وبعده أتوقف أمام ما ورد في الصفحة 51 من الوثيقة السياسية من أنه ينبغي أن يأخذ التحالف اليساري التقدمي الديمقراطي في الاعتبار أن أي بديل لا يربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي هو انتكاسة للثورة، وما تكرر لاحقاً في الصفحة 56 حول استنهاض حركة تحرر وطني عربية على أسس جديدة تجمع بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي بقيادة وطنية ديمقراطية ثورية، وكذلك ما  تكرر مرتين في الصفحة 63 عن الجمع بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، من عدم الربط بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي والتغيير الديمقراطي، مع أنّ هذا ورد في أماكن أخرى إلا أنه سقط في هذه المواضع... وهذا ما يجب أن ننتبه له، فنحن الشيوعيين العرب متهمون بأننا قد أهملنا القضية الديمقراطية عندما أيّدنا الأنظمة التقدمية العربية السابقة، ويجب ألا نكرر هذا حتى ولو كان الأمر سهواً، فالسهو عن الأسس والركائز سهو لا يغتفر!
وفي الوضع اللبناني، الذي يبدأ متأخراً في مشروع الوثيقة السياسية، ويحتل النصف الأخير من مشروع الوثيقة، بينما يحتل الوضعان الدولي والعربي النصف الأول من المشروع، فلابد بدءاً من الإشادة بالجهد المبذول في تحليل الوضع اللبناني على نحو ملموس، وأنوه ايجابياً إلى ما تضمنه بعض أقسام المشروع من أرقام وإحصاءات ونسب تساعد على فهم بعض جوانب الواقع اللبناني خصوصاً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
لقد تناول مشروع الوثيقة السياسية كل مظاهر غياب الدولة في لبنان، بالحديث عن دويلات داخل الدولة، وعن دور الطائفية في تهشيم الدولة والصيغة الوطنية، وكذلك عند الحديث غياب سلطة الدولة عن معظم الأراضي اللبنانية، وهذا ما يفترض أن يقود إلى أن تكون المهمة الأولى والمركزية هي مهمة إعادة الاعتبار إلى مشروع بناء الدولة اللبنانية الحديثة، الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية أو المدنية، قبل أي أولوية أخرى... فمقاومة الإمبريالية ومقاومة الخطر الصهيوني الدائم والحفاظ على الاستقلال الوطني للبنان تتطلب جميعها الانطلاق من وجود دولة، والصراع الطبقي يتطلب وجود دولة، وبالتالي يفترض أن تتصدر مهام نضالنا مهمة إعادة الاعتبار لمشروع بناء الدولة الحديثة، الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية أو المدنية، وهذا ما ينطبق على العديد من البلدان العربية، سواء ليبيا أو العراق أو اليمن أو بلدان الخليج، وليس لبنان وحده فحسب.
وهناك ملاحظة ربما من المفيد توضيحها تتصل بما ورد تحت العنوان "رابعاً: مقاومة الخطر الإسرائيلي الدائم"، وتحديداً في الصفحة 75 عن ازدواجية وضع المقاومة الإسلامية خصوصاً من حيث التباين بين طابعها الايديولوجي ودورها الوطني؛ وانغماسها في تركيبة النظام من موقع طائفي، وغير ذلك، وفي ظني أنّ التوصيف الأنسب هو أزمة المقاومة الإسلامية وليست ازدواجيتها سوى أحد مظاهر هذه الأزمة.... وهذا ما ينطبق على ما ورد في الصفحة 76 عن وجود مشروعين للمقاومة، مشروع يجمع بين تحرير الأرض وتغيير النظام، ومشروع يفصل بينهما، بينما الأدق على المشروع الأخير أنّه ليس فقط يفصل بينهما، وإنما هو لا يطرح الشق المتصل بتغيير النظام، الذي هو جزء منه.
وعندما يتناول مشروع الوثيقة السياسية تحت العنوان "خامساً: خطر الإرهاب وسبل مواجهته" بدءاً من الصفحة 77، فإنه يقفز على الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإرهاب في الوضع اللبناني ويصفه فقط بأنه إرهاب وافد إليه من الخارج، وأنه يستفيد من الانقسامات التي ولدها النظام السياسي الطائفي ومن السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على التمييز، وهذه في ظني مقاربة ليست موضوعية، مع التأكيد على خطر الإرهاب الوافد من الخارج.
ويتناول مشروع الوثيقة السياسية ظاهرة الفقر في لبنان بوصفها جزءاً من المسألة الاجتماعية بدءاً من الصفحة 98، ولكن مع أهمية ما ورد إلا أنّ مشروع الوثيقة لا يشير إلى ما هو خط الفقر في لبنان، وفي الوقت نفسه فقد يكون من المفيد ليس فقط الإشارة إلى الفقر وإنما إلى مؤشرات تركز الثروة بأيدي القلة، وهي مؤشرات لا تقل أهمية عن مؤشرات الفقر لبيان التفاوت الطبقي.
وتحت عنوان "حادي عشر: الحركة النقابية بين التهميش السلطوي والنضال من أجل الاستقلالية" لابد من الإشادة بالعرض المهم لمعركة سلسلة الرتب والرواتب التي كان بحق معركة اجتماعية كان للشيوعيين اللبنانيين دورهم المشهود فيها، وكذلك فقد تضمن هذا القسم بدءاً من الصفحة 112 نقاطاً برنامجية مهمة للحركة النقابية والشعبية، مثلما ترد أيضاً نقاطاً برنامجية مهمة حول التغيير الديمقراطي تحت العنوان "ثاني عشر: موقع الحزب الشيوعي في التغيير الديمقراطي" بدءاً من صفحة 116... أما الملاحظة التي تستحق التوضيح فهي حول ما ورد في الصفحة 114 من أنّ الخيار الاستراتيجي في هذا المجال هو العمل على تشكيل مركز نقابي بديل ديمقراطي ومستقل، فهل المقصود هنا هو التخلي نهائياً عن العمل في النقابات العمالية القائمة؟!
***
هذه بعض وقفات أرجو أن تكون مفيدة أمام مشروع الوثيقة السياسية الهامة، التي أعدها الحزب الشيوعي اللبناني الشقيق ليعرضها أمام مؤتمره الحادي عشر... وعذراً إن كان بعض ما أوردته في ثنايا مداخلتي يبدو تدخلاً في شأن داخلي لحزب شقيق أو انتقادات غير مقبولة.