أميركا العنصرية: أقليات مستعمَرة في جمهورية بيضاء
«ثمن الحرية دائماً أقل من ثمن الاضطهاد»
ويليام دو بويس: «إرث جون براون»
«حين يكون المسيح أبيض، ومريم بيضاء، والله أبيض، والجميع بيض، فهذه قومية بيضاء»
مالكولم إكس: «ورقة الاقتراع أو الرصاصة»
يعزو بعض المؤرخين فشل النورس (Norse) الأوروبيين (من أصول نرويجية) في تثبيت أقدامهم في شمال شرقي كندا ومن ثم استعمار باقي أميركا الشمالية في القرن الحادي عشر، من ضمن أسباب عديدة، لـ «عدائية» السكان الأصليين. كان السكان الأصليون عدائيون فعلاً. لكن، «لا غرابة في ذلك العداء»، يقول ألفريد كروسبي في «الإمبريالية الإيكولوجية»، فالأوروبيون «قتلوا ثمانية من أول تسعة قابلوهم من السكان الأصليين».
أما المحظوظ التاسع، فنجا فقط لخفته وسرعته في الهرب. وكانت هذه الحادثة فاتحة عصر طويل من القتل والدمار والعنف والعبودية والتطهير العرقي والعنصرية التي ستلحق بكل سكان الأرض على يد المستعمر الأبيض، ما جعل الشاعر المارتينيكي ايميه سيزير يقول محقاً مرة: «الغرب قابع على كومة جثث إنسانية». لكن سيزير حينها لم يكن يعلم أن «حديقة الورد» في البيت الأبيض، حيث يعقد رؤساء الجمهورية البيضاء مؤتمراتهم الصحافية، تقبع فعلاً فوق عظام شعب كونوي الهندي الذي أباده الأنغلوـ ساكسون عن بكرة أبيه، تماماً كما أبادوا شعوب الأراواك في جبال الإنديز الغربية، أول ضحايا تمدد أوروبا غرباً بعد فشلها في المشرق العربي ونجاحها في الإبحار في مياه الأطلسي الدافئة، وكما أبادوا الغوانشي، سكان جزر الكناري الأصليين المسالمين الذين لم يعرفوا شيئاً عن السلاح أو فنون الحرب، إلى آخر واحد فيهم ـ كانوا يسمونهم «الكفار العزل»، في إشارة لعدم تطويرهم لفنون الحرب والسلاح، وكتبرير لإبادتهم باسم الدين أيضاً (انظر منير العكش: «حق التضحية بالآخر»، «تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا»، ألفريد كروسبي «الإمبريالية الإيكولوجية»). هذه، وغيرها الكثير من جرائم المستعمر الاوروبي الأبيض، تجعل ما قاله تشارلز داروين في «رحلة البيغيل» شهادة دقيقة لبعض ما شاهده في رحلته تلك: «أينما حل الاوروبيون، حل الموت بالسكان الأصليين». ما يلي مختصر لقصة أميركا مع الأقليات منذ البداية وحتى إطلاق النار على الفتى مايكل براون في فيرغسون وهو يصرخ على قاتله «لا تطلق النار»، خنق بائع السجائر أريك غارنر حتى الموت في نيويورك وهو يستجدي حياته من قاتله: «لا أستطيع أن أتنفس»، إطلاق النار على رؤوس ثلاثة طلاب عرب من سوريا وفلسطين، ضياء بركات ويسر ورزان أبو صالحة في داخل بيتهم في تشابيل هيل/ نورث كارولينا، وأخيراً مقتل فريدي غراي بكسر عموده الفقري إثر اعتقاله في بالتيمور.
النبي الأسود
لم يتفاجئ المفكر الأميركي الأسود ويليام دو بويس من جرائم النازية أثناء زيارته لألمانيا في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ولم يصدمه، كما قال، أي من الفظائع التي شاهدها هناك. فـ «دو بويس،» أحد أعظم مفكري أميركا في القرن العشرين، كان يعرف تاريخ أميركا وما حل بأهله من الأميركيين الأفريقيي الأصل هناك جيداً، وكان يعرف، أيضاً، الكثير عن تاريخ الغرب الاستعماري الدموي في بلاد أجداده، وفي «العالم الثالث» كذلك. لهذه الأسباب وغيرها، وحتى قبل زيارته تلك لألمانيا، كان دو بويس، المفكر الفذ الذي يسقطه التأريخ الأميركي المدرسي من عداد مفكري أميركا العظام للونه الأسود فقط، حتماً سيتفق مع صديقه المفكر والشاعر المارتينيكي ايميه سيزير لقوله إن الغرب لم يعتبر هتلر مجرماً لما فعله، بل لأنه ارتكب جرائمه في اوروبا وضد الرجل الأبيض ولأنه، وفقط لأنه، طبّق على اوروبا وأهلها ما فعلته اوروبا الاستعمارية على الدوام بأهل الجنوب.
لكن، يتوجب القول إن دو بويس، ملهم الكثير من مفكري العالم الثالث، كان نبياً بلا شك في طريقة تعليقه على فظائع النازية أثناء زيارته تلك: «ليس هناك فظائع نازية ـ معسكرات اعتقال، تشويه وقتل بالجملة، هتك لأعراض النساء، تجديف مروع للأطفال ـ لم تقم بها الحضارة المسيحية الاوروبية منذ فترة طويلة ضد الشعوب الملونة في كل أنحاء الأرض، باسم، ومن أجل الدفاع عن تفوق عِرْق وُلِدَ لحكم العالم». كان نبياً حقاً، فبعد عبارته تلك بأقل من خمس سنوات (١٩ شباط ١٩٤٢) سيوقع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الذي قاد بلاده والعالم لمحاربة النازية وتخليص العالم من شرورها ومعسكرات اعتقالها، الأمر التنفيذي ٩٠٦٦ الذي سيفتح المجال لإقامة معسكرات اعتقال لأكثر من ١٢٠ألف أميركي من أصول يابانية (تقريباً كل الأميركيين من أصول يابانية حينها، وأغلبهم من الجيل الثاني والثالث، أي أنهم ولدوا وعاشوا في أميركا ولم يعرفوا وطناً غيرها)، لا لشيء إلا لأصولهم العرقية (من يستغرب أن تلقي أميركا المعونات الغذائية والقنابل الذكية على البلد نفسه وفي الوقت نفسه، ويستغرب بعد ما ذكر أعلاه، أن تحارب أميركا لتحرير معتقلي معسكرات النازية بإقامة معسكرات مشابهة على أرضها، فهو لا يعرف تاريخ الجمهورية البيضاء كفاية، وربما سيكتشف في المستقبل أنه لا يزال في جعبة «رسل الحضارة» الأنغلوـ ساكسون هؤلاء الكثير من الأعاجيب والنفاق والوقاحة).
بعدها بأربعين عاماً ستستنتج لجنة التحقيق التي عيّنها جيمي كارتر بعد ضغوط هائلة على إدارته في تقريرها، «إنكار العدالة الشخصية»، أن العنصرية كانت السبب الأساسي وراء تلك الإجراءات التي قادت لاعتقال كل المواطنين من اصول يابانية تقريباً، رغم أنهم لم يخونوا وطنهم الجديد مطلقاً، وتوصي بتعويضهم لخسارتهم ممتلكاتهم وأعمالهم ومعاناتهم في معسكرات الاعتقال. اللافت في تلك القصة أن المحكمة العليا حينها أيّدت قرار روزفلت ورفضت الشكوى التي تقدم بها المعتقلون، فيما انكشف أخيراً أن دائرة الإحصاء المركزية أيضاً ساهمت في العملية عبر تزويد الحكومة بالمعلومات الشخصية المطلوبة عن المواطنين الأميركيين من اصول يابانية. لم تكن مشكلة ١٢٠ ألفاً من المواطنين مع مجموعة من العنصريين مهما علت رتبهم الوظيفية، بل مع نظام ومؤسسات وجمهورية اسست أصلاً لإخضاع الأقليات عبر قهرهم بالعنف المفرط لإجبارهم على الخنوع والقبول بمكانة دونية وأيضاً للحفاظ على امتيازات البيض باسم القانون والمؤسسات والدستور.
دستور من جهنم
ما بين ٢٥ أيار وحتى ١٧ أيلول ١٧٨٧ التقى في مدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا خمسة وخمسون رجلاً أبيض لكتابة الدستور الأميركي. نصف هذا الجمع تقريباً، خمسة وعشرون منهم، كانوا من ملّاك العبيد، وبعضهم كان من أكبر ملّاك العبيد في أميركا الشمالية على الإطلاق، فيما جميعهم، وبلا استثناء، كانوا من ملاك الأراضي أو أصحاب الأعمال والتجارة المتربحين مباشرة إما من العبودية أو تجارة العبيد (انظر جو فيغين: «أميركا العنصرية»، أيضاً «العنصرية المنهجية»). غاب عن هذا الجمع الذكوري النخبوي الأبيض أي تمثيل للمرأة التي سيكون عليها أن تناضل حتى ١٩٢٠ لتحصل على حق التصويت فقط، فيما المساواة مع الرجل لا تزال غير متحققة حتى الآن. وغاب عن هذا الجمع الأنغلوـ ساكسوني كذلك أي تمثيل للأقليات العرقية والإثنية. فالسود، مثلاً، الذين شكلوا حينها أكثر من عشرين في المئة من السكان، سيخضعون لعبودية وحشية تستمر لأكثر من قرنين ونصف القرن، ثم لنظام فصل عنصري همجي يستمر قرناً آخر، وسيكون عليهم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مقاومة مكانة «المقاتل العدو» التي تفترضه أجهزة الشرطة في كل واحد منهم. أما السكان الأصليون فلقد تعرضوا لمجزرة جسدية وثقافية غير مسبوقة في التاريخ. فبحسب إحصاء ١٨٩٠ لم يبق منهم سوى ربع مليون فقط من أصل ١٨ مليون ونصف المليون كانوا يقطنون أميركا حين بدأ زحف الأنغلوـ ساكسون غرباً ـ ليعرف المرء حجم المجزرة يمكنه فقط قراءة المقارنة التالية التي أدين بها للصديق منير العكش: «حين وصل كولومبوس إلى أميركا، كان عدد سكان الجزيرة البريطانية أربعة ملايين فقط، وفي عام ١٩٠٠ كان عددهم ٤١ مليون (أي أكثر من عشرة أضعاف ما كان عليه أيام كولومبوس). هذا يعني أن عدد الهنود في المنطقة التي تسمى اليوم الولايات المتحدة، لو تزايدوا بالنسبة نفسها، كان يجب أن يكون عام ١٩٠٠ في حدود ١٨٥ مليون إنسان. المجزرة أبقت منهم ربع مليون فقط». لكن وقاحة الرجل الأبيض ونفاقه ستدفعه لإقامة متحف الهولوكوست استنكاراً لجرائم اوروبا البيضاء ضد اليهود فوق سوق مدينة «نكن شئنكة» الهندية التي تم تدميرها عن بكرة أبيها. فوق كل ذلك، تعرضت لغات وثقافات الهنود ووجودهم الحضاري لمجزرة ثقافية جعلت من الاستعمار الأنغلوـ ساكسوني النموذج الاستعماري الأكثر دموية والأعنف على الإطلاق في تاريخ الإنسانية. فالاستعمار الأنغلوـ ساكسوني لم يكتف بالإبادة الجسدية مثل غيره من النماذج، بل عمل باستمرار على ارتكاب المجازر الثقافية وممارسة سياسة المحو والإلغاء والإفناء ضد الشعوب التي يستعمرها، كما أرّخ منير العكش في «أميركا والإبادات الثقافية» (هل تعرفون الآن لماذا يبدو ساذجاً، إن لم نقل غبياً، من يظن أن مشكلة العرب مع الغرب، وأميركا تحديداً، هي فشل العرب في إقناعهم بحقنا في فلسطين وبدموية الصهاينة).
في هذه الأشهر الأربعة الحاسمة، تم وضع الأسس لبناء جمهورية بيضاء، جمهورية للأنغلوـ ساكسون، أهم وظيفة لأدوات ومؤسسات الدولة فيها هو العمل باستمرار على إخضاع الأقليات والحفاظ على امتيازات البيض بشتى الوسائل. فأجهزة الأمن، والشرطة، والمحاكم، والحرس الوطني، مثلاً، ليست مصممة أصلاً لـ»الحفاظ على النظام» فقط، بل وإخضاع الأقليات عبر قهرهم بالعنف المفرط لإجبارهم على الخنوع والقبول بمكانة دونية والإقرار غير القابل للجدل بفوقية العرق الأبيض. وهذه أيضاً وظيفة مؤسسات الدولة والمجتمع الاخرى التي لا تعاني فقط مما يسمى بالعنصرية الفردية، بل، والأخطر من ذلك، من العنصرية المؤسسية حيث يصبح التمييز والعنصرية النتيجة الطبيعية للعمل الروتيني وتطبيق القانون حتى لو لم يكن الفرد المسؤول عنصرياً أو حتى لو كان معادياً للعنصرية (بحسب تصنيف روبرت ميرتون للعلاقة بين التحيز العرقي والعنصرية). لا يهم كثيراً إن كان الشرطي، مثلاً، عنصرياً كفرد، أو حتى لو كان معادياً للعنصرية، طالما أن «التنميط العنصري» ومعاملة الفرد بحسب عرقه ولونه هي سياسة مؤسسية كما في دوائر الشرطة والمحاكم ومؤسسات الدولة.
وفي ١٧ أيلول ١٧٨٧ جرى التوافق على النص الأول من الوثيقة التي يتناسى من لا يكل من التذكير بعظمتها وراديكاليتها أن المادة الأولى، القسم التاسع، منها لم تُشَرِّعْ تجارة العبيد فقط، بل وحتى حظرت على الحكومة الفيدرالية إلغاءها قبل عام ١٨٠٨ وفقط بتفويض من الكونغرس، فيما المادة الرابعة، القسم الرابع، يفرض على الحكومة الفيدرالية المساهمة مع الولايات في قمع أي انتفاضات محتملة للمستعبدين من الأفريقيين الذين اختطفوا بالقوة من بلادهم للعمل عبيداً في مزارع العم سام. وبعد هذا الاتفاق بين ممثلي الولايات على نص هذه الوثيقة، «الاتفاق مع جهنم» كما وصفته «جمعية ماساتشوستس لمناهضة العبودية» في عام ١٨٤٤، سيتتالى على رئاسة هذه الجمهورية الأنغلوـ ساكسونية عشرة رؤساء جميعهم بلا استثناء كانوا من ملاك العبيد إما أثناء رئاستهم أو قبلها (من واشنطن ١٧٨٩ ـ ١٧٩٧ حتى غرانت ١٨٦٩ ـ ١٨٧٧). حتى الرئيس «المحرِر»، أبراهام لنكولن الذي أصدر وثيقة إلغاء العبودية، لم يكن مختلفاً. فهو كان على استعداد لإبقاء العبودية قانونية لو كان ذلك سيحافظ على وحدة البلاد التي كانت همه الأول والأخير. أما وودرو ويلسون، الرئيس الليبرالي الذي استبشر العالم به وبمبادئه التي أعلنها في السياسة الدولية، فلم يكتف بكيل المديح على أكثر الأفلام التي أنتجتها هوليوود عنصرية على الإطلاق، بل إن فيلم «ولادة امة» الذي يقتبس ويلسون مادحاً التنظيم العنصري KKK كان أول الأفلام التي عرضت في البيت الأبيض على الإطلاق. بعد هذه المرحلة التأسيسية أصبحت كل التعديلات الدستورية وحتى قرارات المحكمة العليا لاحقاً غير قابلة للتطبيق كلياً.
لكن أحفاد تلك النخبة البيضاء التي اعتبرت في المادة الاولى من الدستور حينها، ولأسباب انتخابية بحتة لضمان تمثيل نيابي مؤثر للولايات الجنوبية، أن الأسود يعادل ثلاثة أخماس إنسان (من دون حق التصويت طبعاً)، سيتمتعون بوقاحة أجدادهم الشديدة ونفاقهم الفظ فيرفعون شعار تحرير المرأة والأقليات في أربع جهات الأرض لتبرير غزوهم البربري لشعوب الجنوب وتعزيز هيمنتهم على العالم.
كيف انتصر الجنوب الأميركي في حرب هزم فيها؟
في ملاحظة تنمّ عن ذكاء وعبقرية لافتة لاحظ مالكولم إكس في خطابه الشهير «ورقة الاقتراع أو الرصاصة» أن تركيبة مجلس النواب والتأثير الكبير لممثلي الجنوب من الذين يعرفون بالـ «ديكسيكراتس» (نواب ديمقراطيون جنوبيون يدعمون حقوق الولايات مقابل الحكومة الفيدرالية ويناصرون الفصل العنصري وما عرف بقوانين جيم كرو العنصرية) تتناقض تماماً مع حقيقة أن الجنوب قد خسر الحرب الأهلية. خسر الجنوب الحرب عسكرياً فقط، لكنه ربح لاحقاً معركة ما سمي بعد الحرب بـ «إعادة البناء» واستطاع فرض نظام «عبودية من دون عبيد»، كما سمى المفكر الأسود الفذ وليام دو بويس ما عرف لاحقاً بـ «القوانين الخاصة بالسود» «lack CodesB» التي أصدرتها الولايات الجنوبية وفَرَضَتْ على السود مكانة لا تختلف بجوهرها، كعلاقة اجتماعية، عن مكانة العبيد. ورغم أن فكرة «إعادة البناء» بحد ذاتها كانت إدراكاً لخلل بنيوي عميق في أساس الجمهورية يتوجب إصلاحه، لكن الظروف التي تلت الحرب الأهلية مكنت النخبة الجنوبية التي حاربت دولة الوحدة من العودة إلى موقع القرار والنفوذ مباشرة تقريباً بعد الحرب (سيطالب دو بويس لاحقاً في كتاب فذ بـ»إعادة بناء للسود»). انتهت الحرب ولم تتغير العلاقات الاجتماعية في الجوهر، واستبدلت العبودية المتوحشة بنظام فصل عنصري قذر (بسبب لا أخلاقية مقارنة نظام فصل عنصري مع آخر من ناحية السوء، فكلها قبيحة، لن أعمد للمقارنة، لكن شعار «من فيرغسون إلى فلسطين: العدو واحد والصراع واحد» يفسر الكثير من القرب الذين نشعر به تجاه اخوتنا السود هنا حين نشاهد إريك غارنر يخنق حتى الموت أمام العالم ليرى ويخاف من سطوة رسل الحضارة الغربية. ربما لهذا السبب استفز صحيفة «ذي تلغراف» أن يقوم شباب فلسطينيون بالتغريد لاخوتهم السود في فيرغسون حول طريقة التعامل مع الغاز المسيل للدموع فنقلت الخبر وكأنه مؤامرة وليس إدراكاً من الطرفين أن «العدو واحد والصراع واحد» فعلاً).
طبعاً، لم تكن الحرب الأهلية الأميركية، كما هو شائع بالخطأ، من أجل إنهاء العبودية، بل كانت نتيجة منطقية للتوتر القائم حينها بين نظامين اقتصاديين (زراعي في الجنوب وصناعي في الشمال) أصبح وجودهما معاً معيقاً لتراكم رأس المال في الشمال ومعيقاً للدور العالمي المرتقب للجمهورية التي ستحكم العالم. لننتبه للزمان والمكان والحدث لنفهم القصة جيداً ولنخلع عنا أي أوهام عن قصة المحرر العظيم أبراهام لنكولن: الحرب بدأت في ١٢ نيسان ١٨٦١ وبمبادرة من الولايات الجنوبية (لا من الشمال) التي أعلنت انفصالها وهاجمت قاعدة عسكرية تابعة للحكومة الفيدرالية في ولاية كارولينا الجنوبية. أما إصدار «وثيقة تحرير العبيد» فجاء في الأول من كانون الثاني ١٨٦٣ بعد عامين تقريباً من بداية الحرب وكان أثرها الأهم حينها هو في تعديل موازين قوى الحرب (انضم إلى جيش الوحدة أكثر من ١٩٠ ألف جندي أسود). هذا يؤكد أيضاً أن العبودية لم تكن حتى السبب الذي قاد بعض الولايات الجنوبية لإعلان الانفصال والمشاركة في المجهود الحربي. وطبعاً لم تعن الحرب مطلقاً، كما هو شائع أيضاً، أن الشمال كان حينها جنة المساواة والتسامح العرقي، فأكثر المواجهات العرقية دموية في التاريخ الأميركي حدثت أصلاً في الولايات الشمالية.
في النهاية، انتصر الجنوب في حرب خسرها لأنه لم يدفع ثمن خسارته الحرب عسكرياً، ولم يُجبر على تغيير العلاقات الاجتماعية جذرياً كما بدا حينها أنه هدف الحرب. بعد فترة قصيرة عرفت بـ «إعادة البناء» ولم تتجاوز عشر سنوات حصلت الردة وتأسس نظام فصل عنصري سيدوم أكثر من ثمانين عاماً ـ وعملية «إعادة البناء» هذه تشبه ما يردده ببغاوات الثورات المضادة عندنا عن «عملية الانتقال الديمقراطي»، ولو كانت الثورات تقوم فعلاً على مراحل انتقالية ولم تهدف لاجتثاث كل المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستبدالها، لما سموها كذلك. لكن ماذا تفعل بـ «مفكرين» مزورين دأبوا على رجم الناس يومياً بمصطلحات نبشوها من أدبيات المؤسسات الاستعمارية الغربية ولا تشير إلا إلى تفاهتهم. يستثنى من هذا طبعاً من نَظَّرَ للمرحلة الانتقالية من موقع مثقفي الثورة المضادة، فهذه وظيفتهم.
الاستعمار الداخلي: فقر خطاب الحقوق المدنية
بعد أكثر من خمسين عاماً من صدور قانون الحقوق المدنية في أميركا لا يزال باستطاعة شرطي أبيض أن يقوم بخنق رجل أسود حتى الموت أمام الكاميرات وعلى مرأى من العالم. ورغم ذلك لا تجد «هيئة المحلفين الكبرى» أي سبب يدعو لمحاسبة هذا الشرطي ولا تجد مؤسسة العدالة البيضاء غضاضة حتى من الانتقام من الشخص الذي قام بتصوير الجريمة ووضعه في السجن بحجة اخرى. هذا يعني أن مجرد إلغاء القوانين لا يفعل شيئاً، وأن صفة «مواطن» و»دولة المواطنين» لا تعنيان شيئاً طالما كان التمييز بنيوياً وطالما كانت العلاقات الاجتماعية مؤسسة على العنصرية واللامساواة ـ لكن بعض فلاسفة العرب لا يكفّون عن الحديث عن وهم «المواطنة» ووهم «دولة المواطنة» وكأن هذه المواطنة معلقة في فراغ أو كأن مجرد كتابتها في نصوص قانونية سيحل المشكلة. في عام ١٩٥٤، مثلاً، أصدرت المحكمة العليا حكمها في القضية الشهيرة «براون .vs مجلس التعليم» (Brown vs. the Board of Education) والذي أنهت بموجبه حكماً سابقاً يُشَرِّعُ الفصل العنصري في المدارس ويؤسس لنظام فصل عنصري في ١٨٩٦
(Plessy vs. Ferguson). لكن لم يمض إلا وقت قليل فقط لتكتشف الأقليات بعدها أن حكماً قضائياً من أعلى محكمة في البلاد غير كفيل بإنهاء الفصل العنصري في التعليم وفي مرافق الحياة اليومية، ولتكتشف بعدها بسنوات أن نظام العدالة وجهاز الشرطة ليست إلا أدوات إخضاع وقهر وتقييد، ولتكتشف أيضاً أن توصيف فرانز فانون في «معذبو الأرض» عن الاستعمار الخارجي ينطبق تماماً على الاستعمار الداخلي: «العالم المستعمر منقسم إلى عالمين، والخط الفاصل، أو الحدود الفاصلة، بينهما إنما هي لثكنات ومراكز الشرطة».
لكن حركة الحقوق المدنية غفلت حقيقة الاختلاف في التجربة التاريخية للأقليات العرقية والإثنية وخدعها وهم المساواة الشكلية ووهم المواطنة. فالدراسات العرقية والإثنية تميز بين الأقليات المستعمرَة، التي استُغِلت لقوة عملها، كما حدث للأفريقيي الأصل، أو لأرضهم كما حدث للسكان الأصليين، وبين الأقليات التي تم ضمها في سياق التوسع غرباً في أعقاب صفقة لويزيانا في ١٨٠٣ مثل التشيكانوز، والأقليات المهاجرة التي جاءت «بمحض إرادتها». ربما تستطيع بعض الأقليات الإثنية التي هاجرت «طوعاً»، كما حدث مع الايرلنديين مثلاً تحقيق بعض النجاح والانخراط في التيار العام، أما الأقليات المستعمَرة، فلا تزال وستبقى تواجه مؤسسات ودولة ودستور وقوانين وُجِدَتْ أصلاً لإخضاعهم ومنع اندماجهم.
خاتمة: أبطال وطواويس
بعد أكثر من خمسين عاماً على قانون الحقوق المدنية، ربما سيظن جيل مناضلي الحقوق المدنية من الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي الذين كانوا يهتفون «كل العالم يراقب» فيما كلاب الشرطة (الكلاب الحقيقية) تهاجمهم وتنهش لحمهم، أنهم أمام كابوس حين يعلمون أن العالم اليوم، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يشاهد فعلاً الرجل الأسود يُخنق أمام الكاميرات حتى الموت فيما لا تجد هيئة المحلفين الكبرى سبباً كافياً لمحاكمة قاتله. لكن حين يدعو بعض أبنائهم اليوم إلى اعتصام بعد آخر «Sit_In» لظنهم أن القضية هي قضية حقوق مدنية لم تحقق أهدافها بعد، فهذا يعني أنهم لم يتعلموا درس التاريخ جيداً. كان مالكولم اكس يُعَلقُ على من يدعو إلى اعتصام من هذا النوع بالقول: «لقد أضعنا وقتاً طويلاً في الجلوس. آن الأوان للوقوف».
لكن للأقليات المستعمرة أبطالها، وطواويسها أيضاً. ربما لن تعرف أميركا قريباً مفكراً عبقرياً من عيار دو بويس وناشطاً سياسياً فذاً من نوع مالكولم اكس، وإرثهما سيظل يشكل تحدياً ليس للجمهورية الأنغلوـ ساكسونية البيضاء فقط، بل وأيضاً للطواويس من الطبقة الوسطى من الأميركيين من أصول أفريقية وغيرها من الأقليات التي تخون أبناء جلدتها في سعيهم للخلاص الفردي والنجاة بجلدهم. كان بوكر واشنطن يطالب أهله بقبول سياسات توفيقية والعمل بجد لنيل احترام مضطهديهم من الأنغلوـ ساكسون. لكن دو بويس الذي أدرك الأثر التدميري الكبير لهؤلاء الطواويس، أفرد لهم، ربما، أهم ما كتبه على الإطلاق، «أرواح الناس السود»، معلناً أن السياسات التوفيقية لا تفعل شيئاً إلا تعميق وتكريس سياسة الاضطهاد، وأن «ثمن الحرية دائماً أقل من ثمن الاضطهاد»، كما كتب في «إرث جون براون». وهؤلاء الطواويس من الأقليات، الذين يظهرون هذه الأيام في الإعلام كمدافعين شرسين عن نظام الجمهورية البيضاء، هم أنفسهم من سماهم مالكولم اكس سابقاً «عبيد البيت» الذين يبدون استعداداً للموت لإخماد الحريق في بيت «السيد»، فيما «عبيد الحقل»، من أمثاله، يجلسون هناك في الحقل، ينظرون إلى الحريق، يتضرعون لله ويصلون من أجل قليل من الريح لعل النار تلتهم البيت وسكانه.
المصدر: الأخبار