عالم جديد.. أوراق قديمة
تحلق الطلاب حول استاذهم وهو يفرد ورقة كبيرة ملونة على الطاولة، أخذ الاستاذ يفرد ثنايا تلك الورقة الكبيرة بكل عناية ودقة ، لقد تركت السنين الطوال آثارها على تلك المخطوطة حتى تلاشت ألوانها وتآكلت أطرافها، لكنه استطاع فرد تلك الورقة بنجاح لتظهر خريطة منمقة للعالم فردت على الطاولة، يستطيع المرء تمييز اختلاف ما في تلك الخريطة كما لو أنه يراها للمرة الأولى، تنقلت عيون الطلاب على الفور بين هذه الخريطة وأخرى علقت على جدار الصف منذ زمن، هناك فرق واضح بين الاثنتين دفع الجميع في النهاية إلى النظر إلى وجه الاستاذ الباسم وهو يحدق في تلك المخطوطة الملقاة أمامه، نظر إلى الوجوه المذهولة وقال: «انظروا يا أبنائي.. هذا هو العالم كما لم ترونه من قبل..!»
نعلم جميعاً بأننا نعيش على «كرة» أرضية وأن العالم ليس مسطحاً كما تظهره أي خريطة، وبالتالي، ستخضع أي عملية «إسقاط» لمجسمات اليابسة ومسطحات المياه على ورقة مستوية إلى بعض التشويه بالمقارنة مع حالتها الحقيقية وهي تقبع على منحنياتها، وهنا بدأ العلماء باقتراح «مساقط» متعددة للأرض وفقاً لنظريات الإسقاط الخاصة بكل منهم، وتبعاً للوظيفة التي ستعمل تلك الخريطة على أدائها، لكن معظم الناس لا يعلمون بأن اعتماد احد النماذج دن غيره هو انتقاص واضح لحقيقة الحيز الجغرافي لنا نحن البشر في كل مكان، فعلى سبيل المثال تعتمد الخرائط التقليدية التي عهدناها على مقاعد الدراسة على نموذج مشوه للكرة الأرضية، يدعى «مسقط ميركاتور»، وهو النموذج الذي تم اعتماده أيام الحملات الملاحية للمستعمرين الأوروبيين حول العالم، حيث تمتع ذلك النموذج بميزة مفضلة عند الملاحين وحافظ على أشكال المساحات الكبيرة من اليابسة، عن طريق تقسيم المساحات الجغرافية إلى مربعات متناسقة سهلت عبور المياه في خطوط منتظمة بعد أن تم توسيع المساحات القطبية وتشويهها على حساب مناطق أخرى للوصول إلى شكل منتظم للأرض، فلاقى استحساناً كبيراً عند قادة السفن وكبار المستكشفين الذي لا يريدون أي مفاجآت قد يحملها رأس صخري عنيد يخترق بدن السفينة دون أي إنذار، لكن اعتماد هذا المسقط منذ العام 1569 إلى اليوم على الرغم من فقدانه للكثير من الدقة يحمل في طياته المزيد من الحقائق!
مسقط جيل – بيرس للكرة الأرضية
تبدو الحقائق صادمة إن تمت مقارنة هذا المسقط مع مساقط أخرى، لنأخذ مخطوطة استاذنا على سبيل المثال، والتي تدعى : «مسقط جيل – بيرس للكرة الأرضية» ،ولنقارن الخريطة التقليدية بالمسقط الذي توضحه تلك المخطوطة، تبدو القارة الإفريقية متساوية في الحجم مع أميركا الشمالية عند النظر إلى الخريطة التقليدية، لكن حقائق الأرقام تثبت بأن أمريكا الشمالية قادرة أن تتسع داخل القارة الإفريقية مع متسع مريح للهند والأرجنتين وتونس في آن واحد! كما تبدو مجموعة الدول الاسكندنافية أكبر بكثير من الهند لكن الحقيقة تقول بأن الهند اكبر منها بثلاثة أضعاف! كما تدل ذات الأرقام على أن مساحة أوروبا لا تفوق مساحة أمريكا الجنوبية كما تدل الخريطة التقليدية ، بل على العكس، تفوق مساحة أمريكا الجنوبية مساحة القارة الأوروبية بحوالي الضعف تقريباً، وهذا ما يظهر بوضوح على مخطوطة الاستاذ التي تبدو اكثر دقة عند مقارنة أحجام الدول والقارات، كما يبدو أن الخريطة التقليدية تحاول إظهار بعض البلدان بأحجام أكبر بكثير من الواقع كما تعمد إلى التقليل من مساحات مناطق وبلدان أخرى في الوقت نفسه!
تشويه جغرافي
يعلم المختصون بأن تعدد المساقط امر طبيعي للغاية، ويسلمون باستحالة رسم مسقط جغرافي مسطح للأرض دون وجود هامش ما من الخطأ، كما أن البعض يشكك بأهمية التدقيق والتشكيك بصحة أحد المساقط لمجرد وجود بعض الأخطاء في تقدير المساحة، لكن المغالطة الخبيثة في اعتماد احد المساقط دون سواه تكشف تحيز صاحب تلك النظرية في رسم المسقط الأشهر حول العالم، حيث تظهر الدول الاستعمارية الأوربية بأحجام مكبرة تفوق بكثير أحجام مستعمراتها حول العالم، وتعرضت القارة الإفريقية التي بقيت لوقت ليس ببعيد تحت رحمة المحتلين الاجانب لـ «تشويه جغرافي» قلل بكثير من مساحتها الحقيقية وساواها بحجم القارة الأوروبية على الرغم من الأرقام تثبت بانها أكبر منه بكثير، لقد سعت الدول الاستعمارية طوال الوقت إلى تكريس فكرة واحدة في لاوعي الشعوب التي استعمرتها، «نحن أكبر منكم.. لذا نحن أقوى»، وهي فكرة تقليدية اعتمدت على ارتباط الحجم الضخم بالقوة في ذهن المتلقي، أي أن هذا المسقط تماشى بشكل ملائم للغاية مع السلوك الإمبريالي للمستعمرين الأوائل وما زال يخدم مصالح المعاصرين منهم إلى الآن، ولذا تم اعتماده والحفاظ عليه رغم تحيزه الفاضح ضد «دول العالم الثالث» كما جرت العادة في تسميتهم.
أتفضلون أن تكونوا فوق؟ أم تحت؟
«ألا تلاحظون بأن معظم الدول العظمى تحتل النصف الشمالي من العالم بينما يبقى النصف السفلي فارغاً ؟!»، نظر الاستاذ إلى تلامذته وهو يطرح هذا السؤال، انظروا إلى المخطوطة، إنها تعتمد نظاماً أكثر دقة في رسم المحاور الأفقية والعامودية، وبالتالي لم تعد أوروبا مركز الخريطة التقليدية، بل يقع «قلب الأرض» في مكان ما في أفريقيا كما تبدو مساحات أميركا الجنوبية أكثر امتدادا نحو الجنوب حيث لم يعد النصف الجنوبي من الكرة الأرضية فارغاً كما عهدناه، «إنهم يتلاعبون باللاوعي من جديد، أتفضلون أن تكونوا فوق؟ أم تحت؟» يبدو السؤال مجرداً وبسيطاً لكنه يحمل الكثير من المعاني المبطنة، أثارت زوبعة في عقول المتعلمين الشباب الذين تابعوا كل كلمة من كلمات استاذهم.
يبدو العالم غريباً هكذا!
قرع الجرس معلناً انتهاء الحصة الشيقة، «لم تعد حصص الجغرافيا مملة كما جرت العادة»، يقول البعض منهم وهو يهم بالخروج، لكن أحد الطلاب تقدم نحو طاولة الاستاذ وأخذ ينظر بإمعان في الخريطة الجديدة، حمل المخطوطة بين يديه واخذ يدورها بإمعان أمام ناظري استاذه الذي ما زال يضع اغراضه في حقيبته الجلدية، توقف الشاب عن تدوير المخطوطة بعد أن قلبها تماما، أصبحت أفريقيا وأمريكا الجنوبية في الاعلى، تقدم الاستاذ نحوه سائلاً: «ما رأيك؟! هل ترى ذلك صحيحاً؟!» أجاب الشاب على الفور: «يبدو العالم غريباً هكذا !» ، ابتسم الاستاذ عندها وقال: «أنا لم أشعر بشيء، ما زلت واقفاً على قدمي ولم اسقط على رأسي عندما قمت بتدوير الخريطة بهذا الشكل، كل ما يهم هو نظرتك أنت للعالم!.. لذا.. من جديد.. هل يبدو ذلك صحيحاً؟!»