النوع البشري.. تعاون أم تنافس؟
الإنسان جزء من الطبيعة، وهو بالطبع ليس كائناً خارقاً لها، إلا أن له خصوصية لا يمكن تجاهلها لدى إجراء الأبحاث البيولوجية فكيف إذا كان مجال الدراسة هو سلوك الكائنات الحية
إن ما أضافه تطور المجتمعات للكائن البشري يجعل من الصعب لعلماء سلوك الكائنات الحية أن يناقشوا ما يتعلق بالإنسان بوصفه كائناً بيولوجياً وفقط، غاضين الطرف عن كونه كائناً اجتماعياً، فلا يمكن أن تطبق عليه تعميمات مستقاة من أنواع أدنى، كما لا يمكن أن نعمم على أنواع أدنى تطورياً صفات تعود حقيقة إلى تطور المجتمع البشري.
ومن الجوانب السلوكية التي تلقى كثيراً من اللغط لدى معالجتها موضوعة «التعاون»، أسئلة كثيرة تطرح حولها، فهل التعاون أصيل في الأنواع ، أم أنه طارئ ؟ ما علاقته بالتنافس ، ليس بين الأنواع فحسب، بل ضمن أفراد النوع الواحد؟ وأيهما أكثر انتشاراً؟ وما موقعه من حياة البشر، وهل يكون السمة المميزة فينا لإنقاذ الكوكب؟!
الفقراء «الزائدون»
يعمم بعض العلماء فكرة تنافس الأنواع فيما بينها على النوع البشري، وكثيراً ما يسود لغو على الألسنة يقول إننا «جنس بشري»، في حين أن البشر هم نوع وليسوا جنساً، ويعلم المشتغلون في حقل العلوم الطبيعية أن الأنواع ضمن الجنس قد تعيش علاقات تنافس شديدة ليستمر النوع الأكثر تلاؤماً، وينقرض النوع الآخر،أما أفراد النوع الواحد فالسائد بينها هو التعاون طالما توافرت الموارد والعش البييئي الكافي (المكان)، وقد يعيش النوع علاقات التنافس في حالات خاصة تتعلق بنقص الموارد، الأمر غير الموجود في حالة البشر، وإن روج له مالتوسيو عصرنا مؤكدين أن حجم الموارد لا يكفي لجميع البشر. فلابد من إزاحة عدد منهم يقدر بالمليارت من سكان جنوب الكرة الأرضية الفقراء "الزائدين"! مقترحين الحروب بين أفراد النوع الواحد بوصفهم أعداء متنافسين على الموارد!!
ليس استثناءً
مارتن نواك أستاذ علم الأحياء والرياضيات في جامعة هارفارد ومدير برنامج الديناميكيا التطورية يقول في مقالته في مجلة العلوم الأمريكية، وبعد أبحاثٍ طويلة أجراها على أنواع أحيائية مختلفة أن التعاون " أبعد ما يكون عن كونه استثناءً في قانون التطور، فقد كان أحد مهندسيه الرئيسيين" لكنه يعود في ختام المقال ليستنتج أن "التعاون غير مستقر في جوهره، وأن فترات من التعاون واللاتعاون تكون مرئية بشكل متناوب في التاريخ البشري ومع تقلبات النظم السياسية والمالية" لكنه يفسر الانزياح باتجاه اللاتعاون بأسباب اجتماعية لها علاقة بالنوع البشري، فيقول إن المرء قد يميل إلى اللاتعاون نتيجة "قناعة" تتشكل لديه بعدم جدوى هذا التعاون، مغفلاً أن حديثه يدور عن إنسان اليوم، إنسان مرحلة الرأسمالية، وقد ينطبق حديثه على المراحل التاريخية التي تسود فيها المجتمعات الطبقية، لكن التوصل لاستنتاج عميق هنا حول أصالة التعاون في الإنسان لا يجوز أن يكون سكونياً يتناول إنسان المجتمع الرأسمالي بل لابد أن يعود إلى مجتمع المشاعة، مجتمع الإنسان الأول للبت في قضية أصالة التعاون أو التنافس في النوع البشري.
دوافع التعاون
يطرح الباحث دوافع بيولوجية خمسة للتعاون هي ، الصلة الجينية، الانتقاء المكاني أو الوجود في مكان واحد، الانتقاء المجموعاتي وهي التعاون في سبيل الجماعة أو النوع، والتبادلية المباشرة أو التعاون مقابل التعاون، والتبادلية غير المباشرة وهي التي تعتمد على السمعة، فالفرد المتعاون سيجد دائماً من يمد له يد العون.
وعليه يقول الكاتب إن أبحاثه تقول بأن البشر من بين الكائنات التي يمكن القول بأنهم متعاونون فائقون، ويعود ذلك إلى وجود لغة متطورة "تسمح لهم بنقل المعلومات" ، لذا فقد بدا أن أكثر دوافع التعاون لديهم قوة هي التبادلية غير المباشرة، وإن هذا التفاعل بين اللغة وحاجة كل فرد للتعاون بالتبادلية غير المباشرة يؤدي إلى تطور ثقافي سريع وأساسي لقدرتنا على التكيف المستمر كنوع بشري.
«مصالح عامة»
يقدم الباحث أيضاً نتائج هامة في بحثه عن ماهية تعميق التعاون أو انزياح المجموعات عنه، ففي تجربة يسميها تجربة "مصالح عامة" يجد كاتب المقال أن جميع أفراد المجموعة تبدأ بالتعاون على قضية معينة تهم المجموع، وعندما يثبت للمجموعة أن تعاونها غير مجد في حل معضلة معينة، فإن كل فرد سيتحول من متعاون إلى غير متعاون، ويفسر بأن الاقتناع هو أساس في التعاون في الجماعات البشرية الطبيعية.
والعلم كغيره من مجالات الثقافة والبناء الفوقي، تهيمن عليه الطبقة المسيطرة، وهم كثيراً ما روجوا لسيادة التنافس والأنانية على التعاون ووظفوا العلماء والمجلات لترسيخ تلك الأفكار،إلا أن حقائق عدة تقول بأصالة التعاون في النوع البشري لا مجال لإنكارها وتجاهلها، يبقى أن نحذر من تلك الأوساط المافياوية التي تسعى لاستخدام العلم للسيطرة على المجموعات البشرية وتوظيفه في خدمة الأرباح، فهم إذ أدركوا أهمية "الاقتناع" و "السمعة" في تفعيل التعاون بالتبادلية غير المباشرة، اخترعوا وسائل عدة لتصنيع سمعة لرموز ما، أو لأفكار ما، منها جائزة نوبل للسلام التي أعطيت لشخص كأوباما مثلاً، كما توظف وسائل الإعلام والسينما والأدب لتشويه سمعة فكرة ما، وبالتالي الحد من التعاون معها، خوفاً من أن تصبح قوة لا راد لها إذا اقتنعت جموع نوعنا البشري بها. فتعاونوا على البر لإنقاذ نوعنا والكوكب.. يا أولي الألباب.