جنود في حرب.. «افتراضية»!

جنود في حرب.. «افتراضية»!

«وجد نفسه فجأة في زوبعة من النيران.. أزيز الرصاص يصم الآذان.. التفت ليجد رفاقه قد تقدموا إلى الأمام قليلاً باتجاه تلة من التراب يظهر من ورائها مجموعة من المقنعين يطلقون القذائف بكثافة عليهم .. انبطح بسرعة على الأرض، وتقَّدم زاحفاً مطلاً برأسه من وراء التلة.. أحس برعشة كهربائية خفيفة وكمن يستيقظ من كابوس.. خلع خوذته ليعود إلى غرفة التدريب المكيفة.. (كانت تجربة مخيفة) يهمس لنفسه وهو يلتقط أنفاسه ثم يلتفت ليرى رفاقه متصلين بالعديد من الأجهزة والتوصيلات الالكترونية لا يتوقفون عن الحركة..»

تندرج التجربة السابقة في إطار «الحرب التخيلية (virtual reality) أو «الحرب الافتراضية» وهو أحد المصطلحات المتفرعة من مصطلح «الواقع التخيلي» أو «الافتراضي» الذي كثر الحديث عنه في السنين الأخيرة، ويقصد به البيئة الاصطناعية التي تنشأ عبر الكومبيوتر وأجهزة تكنولوجيا المعلومات الأخرى وأدواتها، حيث تمارس في «الحرب الافتراضية» الأفعال والسلوكيات والخبرات بصورة أقرب ما تكون إلى ما يجري على أرض الواقع، مثل البيئات الافتراضية، التي تستخدم في التدريب على الطيران، أو الملاحة البحرية، وغيرها من السيناريوهات، فلم يعد خافياً  على أحد ملاحظة التطور الكبير في مجال التدريب العسكري في العقود الأخيرة إضافة إلى التغييرات المختلفة في معظم الأساليب والمناهج المعتمدة في عمليات التدريب تلك، لذا كان لابد من الاستفادة من التطور التكنولوجي المتسارع في الأنظمة الحاسوبية بقدراتها المادية والبرمجية التي كانت أحد العناصر الأساسية في عمليات التدريب والتأهيل القتالي لأغلب صنوف القوات في العديد من دول العالم منذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي.
لاقت هذه الأفكار الترحيب الكبير من القادة العسكريين على اختلاف جنسياتهم وتنوع اختصاصاتهم، وسرعان ما أصبح المتدربون قادرين على قيادة الطائرات وتوجيه الصواريخ والتخطيط للعمليات التكتيكية وهم جالسون أمام شاشات الحواسيب دون الحاجة إلى إجراء تلك التجارب على أرض الواقع لمعرفة النتائج المترتبة عن سلسلة القرارات التي قاموا باتخاذها أثناء تنفيذهم لتلك المهام، والتي قد تكون مكلفة جداً من الناحية الاقتصادية أو قد تأخذ كثيراً من الوقت للتحضير والتنفيذ، ذلك الوقت الذي من المهم استثماره في مهام ذات أولوية أعلى، إضافة إلى القدرة على تنفيذ تلك العمليات افتراضياً وتحت المراقبة لتخزين نتائج التنفيذ واستخلاص المفيد منها باستخدام أدوات مؤتمتة صممت خصيصاً لذلك، وعلى أن يتم ذلك بتغيرات مفتعلة في العديد من البارامترات الناظمة للتنفيذ لدراسة ردود الفعل المختلفة لاستخدام النظام بتنوع الظروف التي تمت تهيئتها، مما يسمح بإعادة التجربة مرات ومرات إلى أن يتم التوصل إلى الاستجابة الأمثل للنظام واعتماد الأسلوب الأمثل للتعامل مع المشكلة الواقعية بناءً على الاستجابة تلك.
بدأت أنظمة المحاكاة الحاسوبية بالانتشار بدايةً في مراكز الأبحاث العملاقة التابعة لإشراف وتمويل المؤسسات العسكرية في حكومات العديد من الدول المتقدمة، مثل وكالة الفضاء الأميركية (NASA)، وكالة الأمن القومي الأميركي (NSA)، وكالة الفضاء الروسية (RKA)، المنظمة الأوروبية للأبحاث الذرية (CERN)، وفي العديد من أقسام وزارات الدفاع في ألمانيا والصين وفرنسا واليابان وغيرها، حيث توافرت القدرات الحاسوبية الضخمة القادرة على تشغيل مثل تلك الأنظمة. ومع ازدياد الحاجة إليها وتطور العتاد الحاسوبي بشكل مطرد في الفترة الأخيرة، تمت الاستعانة بهذه الأنظمة لتؤدي الغرض الأساسي منها تقريباً في المستويات التدريبية كافة، وفي الغالبية العظمى من المعاهد والكليات، وأصبحت الآن من المناهج الأساسية المعتمدة، ومعياراً يؤخذ بكثير من الجدية في عمليات التقييم التي تجري دورياً على المتدربين العسكريين.
وعلى الرغم من الغاية التدميرية التي يمكن أن تترافق مع استخدام مثل هذه الأنظمة، إلا أنها تبقى إعجازاً تكنولوجياً مميزاً يفتح المجال أمام استثمار قدرات تلك التقنيات في تطوير المنظومات الدفاعية دون خسارة تذكر في الأموال والأرواح كما أنها أثبتت وجودها في مجالات البحث العملي السلمي، وتحسين مناهج التعليم والتدريب في العديد من الحقول العلمية  على اختلاف مستويات تعقيدها، كما أنها تخضع لتطور متسارع قد يجعل منها مظهراً أساسياً  لنمط الحياة البشرية اليومية في المستقبل القريب.