تسييس العلم : كيمياء صناعة القرار
غريبة هي العلاقة بين العلم والسياسة..في السياسة.. وجهات النظر هي التي تصوغ شكل الواقع، أما الحقائق فهي قابلة للتغيير والتعديل
، فالمصالح المتعارضة والأهداف المتشابكة والمقايضات التفاوضية على الطاولات تجعل من الحقائق التي سبق وعهدناها راسخة عرضة للتفسير والتأويل والقولبة كما نريد.
أما العلم فيعتمد على مبدأ بسيط جداً، تلك الحقائق هي الواقع بعينه وبالتالي يمكن تخيل ما ستؤول إليه الحال حين تتقاطع الدروب بين العلم والسياسة، وماهي طبيعة الصراع الذي سينشأ ما بين هاتين القوتين.
يعتبر عالم البيولوجيا المرموق «مايكل غوف» من الكتاب الأوائل الذين سعوا إلى تفنيد أسرار العلاقة المريبة بين العلم والسياسة حيث استعان في كتابه الأخير: «تسييس العلم : كيمياء صناعة القرار« Politicizing Science: The Alchemy of Policymaking» بآراء أحد عشر عالماً حول الأشكال المتعددة التي يمكن أن ينتهك بها السياسيون قدسية حقائق العلوم، سواء من خلال التطبيق الخاطئ لخلاصات الاكتشافات العلمية في مواضع وحالات قد لا تنتمي لطيف استخدامها، أو من خلال الإشارة المفرطة لنتائج التجارب العلمية التي يمكن أن تخدم مصلحة سياسة معينة وصولاً للتشويه الصريح والمتعمد للأبحاث العلمية بهدف دعم منهج سياسي محدد دون غيره، كما يتحدث باسهاب عن عواقب هذا التسييس على العامة من الناس وما قد يحمله من تحويل متعمد للجهود والأموال من قنوات البحث العلمي في سبل رفاه وتطور البشرية وبالتالي زيادة وعيها الاجتماعي والسياسي إلى قنوات أخرى تعمل على زيادة قوة وسطوة قلة من المتنفذين، وتغرق تلك المجتمعات في حالة من الحاجة الدائمة للمنتجات الحياتية النافعة في إطار تشريعي خانق لحرية البحث العملي.
تستفيض ثلاثة من فصول الكتاب في وصف تنوع الأساليب التي تنتهجها الحكومات في تسخير نتائج الأبحاث العلمية في اتجاهات تبتعد كثيراً عن الحقيقة، وتقترب من وجهة النظرالسياسية المتبناة من قبل الحكومات ذاتها كما تتابع الفصول الثلاثة اللاحقة في إلقاء مزيد من الضوء على الجهود المكلفة لبعض الأنظمة السياسية في التأثير على الأذهان عن طريق ربط بعض النتائج السلبية للأبحاث العلمية بالنشاطات الاجتماعية التي لا تناسب الهوى السياسي لتلك الأنظمة، وصولاً لفصلين اثنين حول قيام العديد من «مراكز الأبحاث» المدعومة من القطاعين العام والخاص بتسويق نتائج بحثية عن طريق نصائح استهلاكية -على مبدأ «أثبت المنتج الجديد كذا أنه لا يشكل أي خطر على صحتك»- تخدم أولاً وأخيراً سياسات الممولين، ولا تهتم كثيراً بصحتك أو صحة البحث العلمي على الأقل، بينما تلخص الفصول الأخرى العواقب الوخيمة لمقاومة جهود «تسييس» العلوم والوقوف في وجه عواصف الأموال التي تصرف يومياً لخدمة حملات التشويه تلك.
على كل حال إن الخطر الكامن في «تسييس» العلم هو أمر مألوف في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، والأمثلة البسيطة عن تفسير الكهنة القدامى لظواهر الكسوف والخسوف في إطار القبول الإلهي لسياسات الغزو والحروب تدل على ذلك، لكن التسارع المطرد في تطور الاتصالات الرقمية ومنابر التواصل الاجتماعي جعلت منه موضوعاً حساساً يستوجب النقاش والتحليل بين صفوف العلماء قبل السياسيين، بقصد مواجهة الحملات الكونية الإعلامية اليومية التي تقاد على مستوى المؤسسات أو حتى الدول والتي قد تحمل في طياتها الكثير من التضليل لخدمة أجندة سياسية مرحلية فتتجاهل عمداً حقائق العلم المثبتة الدقيقة أو تمعن في تشويهها للتأثير عن القناعة المشتركة للجماعة البشرية في أي زمان ومكان.