الصمود في زمن الحرب: أولوية إنقاذ البيانات والتواصل
في الحروب، التكنولوجيا تَضرب والتكنولوجيا تُضرب والتكنولوجيا تخفّف الضربة. بها يمكن أن نمنع العدوان من أن يعيد دولنا إلى الصفر، وبدونها، يمكن أن نبقى تحت أنقاض البداية بعد كلّ حرب.
في الماضي، كان يمكن اختصار الخسائر في الحرب بثنائية البشر والحجر، فهما ركيزتا الاقتصاد التقليدي. أما اليوم، فلم يعد هذا المعيار كافياً لإحصاء النتائج. فلنفرض أن شركة سوّيت بها الأرض، وأصبحت حواسيبها أشلاء، أو أنّ جامعة دُكّت بالصواريخ وباتت مختبراتها رماداً، فكيف نقوّم الخسارة المادّية؟ هل هي بسعر الحواسيب وأدوات المختبر ومواد الاسمنت؟ الجواب بالسلب طبعاً. ما حوته تلك الحواسيب من معلومات وبيانات قبل اختفائها قد تفوق قيمته كلّ ما سبق. نحن هنا أمام خسارة كل تعاملات الزبائن، وحسابات التجار، وأمام خسارة سنين من الأبحاث والمشاريع وتقويمات الطلاب.
لكن هذه الخسائر ليست قدراً، فإن كان الحجر ثابتاً لا يتقي الطائرات إذا اختلت به، فالبيانات كما البشر يمكنها النزوح إلى مكان آمن. ومن هنا نبدأ: التكنولوجيا باتت حجّة على الدول، ولها دور في تعزيز الحماية للناس وبياناتهم ومعلوماتهم التي تقوم عليها قطاعات كالاقتصاد والتعليم. فلم يعد انقطاع التواصل مع الداخل والخارج أو محو معلومات الشركات أثراً عرضياً للحرب، بل هو في الكثير من الأحيان نتيجة تقصير من جانب الدول في التخطيط أيّام السلم، كي تحمي شعبها واقتصادها.
ما قبل الحرب
في الكثير من البلدان النامية، ليس هناك خطط حقيقية للحفاظ على البيانات في حال الحرب أو الكوارث. وهذا يسري على مؤسسات الدولة أولاً والقطاع الخاص ثانياً. فمن يسائل سجلات النفوس عن مكان وكيفية احتفاظها بالنسخ الاحتياطية لبياناتها؟ في قطاع غزة مثلاً، لا يكاد يوجد مكان بمأمن عن العدوان، فأين تحفظ الحكومة معلومات المواطنين؟ وإذا كان ذلك خارج القطاع، فمن يؤمّنها؟
الحقيقة أنّ اعتماد الكثير من البلدان هو على العمل لعدم حصول كارثة تُمحى فيها بيانات جميع الناس، فتضطر الدولة لتبدأ من الصفر في ذلك.
أمّا في القطاع الخاص، فالحالة بالطبع أكثر سوءاً، بغياب التوعية حول ضرورة تأمين نسخ احتياطية دورياً عن أهمّ الملفّات والمعلومات. وهنا يكمن الفرق مع بعض الدول التي فيها شهر في السنة يطلق عليه»Backup Awareness Month». تعرض فيه الشركات المتخصصة خدماتها بأسعار مخفوضة لتسهّل عملية النسخ الدوري للمعلومات إلى مكان آمن.
وفي الدول التي تكثر فيها الحروب، تكبر مسؤولية الحكومة في أن تبادر هي للقيام بهذا الجهد على وجه السرعة، فتتعاون مع أكثر من شركة في الداخل والخارج لحفظ نسخ عدة من البيانات في أماكن مختلفة.
العيش في زمن الحرب
في أثناء الحرب، هناك أولويتان لمعظم الناس: بالدرجة الأولى البقاء وبالدرجة الثانية التواصل.
كشكل من الحرص على البقاء، تستخدم إسرائيل مثلاً برنامج «Red Alert» للهواتف الذكية لإنذار الناس مباشرة في حال اكتشاف الصواريخ في الأجواء، وهو ما نشأت حوله شبكة تواصل اجتماعي يعلّق فيها الإسرائيليون في الداخل والخارج على سقوط الصواريخ، مع ما يتضمّنه ذلك من التعبير عن الهلع الذي يصيبهم، وقد بلغ عدد مستخدميه أكثر من 600 ألف. تجربة كهذه تبدو بعيدة المنال في بلادنا، حيث لا أجهزة إنذار فعلية في حال العدوان كي يستفاد منها على الهواتف، وحيث قد يؤدي انقطاع الإنترنت، أو الهجوم على كابلاته، لتصبح فعالية هذه البرامج شبه معدومة.
لكن ما حصل أخيراً في العراق تجربة مثيرة للاهتمام: ففي الوقت الذي انقطعت فيه شبكة الإنترنت عن بعض المحافظات أثناء العمليات العسكرية، وصل عدد الذين حمّلوا برنامجاً مثل «FireChat» إلى 40 ألفاً. ويقوم هذا البرنامج على تقنية الـ«Mesh Networking»، حيث يمكن التواصل في مجموعات مفتوحة مع من حولك دون شبكة الإنترنت، وهو ما قد يحصل على مساحات جغرافية بعيدة إذا كان هناك مجموعة كافية من مستخدمي البرنامج نفسه، حيث تقفز الرسائل من هاتف إلى هاتف مجاور حتى تصل إلى آخر تلك الهواتف في المجموعة.
يمكن تصوّر تطبيقات أخرى مشابهة تبني على التقنية نفسها في المستقبل، لنقل مشاهد الحروب إلى من لديه وسيلة تواصل عبر الإنترنت، كي تُبثّ إلى العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت عينه على الواقع. على أنّ أهمّ ما يفتقده “FireChat” حالياً، وهو ما لم يفطن إليه أغلب المستخدمين، أنّه لا يؤمّن خصوصية مستخدميه، إذ لا تشفير ولا محادثات مباشرة، وكلّ من في الشبكة يستطيع استقبال الرسائل. وبالتالي الباب يبقى مفتوحاً أمام برامج بديلة وآمنة لتأمين التواصل دون إنترنت. وللدولة هنا أن تلعب دوراً فعّالاً عبر وضع أجهزة عليها هذه التطبيقات في أماكن أساسية حول المدن لتسهيل انتقال الرسائل بين المواطنين في أوقات العدوان، إذ تكون هذه الأجهزة بديلاً للهوائيات التي تؤمّن إرسال الهواتف النصّية.
ثقافة الاحتياط
جولة على التجارب المتقدّمة في مواجهة الكوارث، يمكن الاستفادة من أفكار أخرى للصمود، إذ تعتمد الحكومة الأميركية برامج هاتفية مثل “ReUnite” للبحث أو التبليغ عن مفقودين، و”FEMA” لتعليمات السلامة والإسعاف الأوّلي ولتحديد مواقع الملاجئ التي توفّرها الدولة. وكذلك تنتشر التقنيات التي تعتمد على الطاقة الشمسية كأجهزة الشحن أو الراديو أو كمصباح “LuminAid” الذي يتمدّد عند الحاجة. وإلى ذلك هناك هواتف مثل “SpareOne”، تعمل لمدة 15 سنة ببطارية واحدة.
يمكن اختصار كلّ ما تقدّم بتعزيز ثقافة الاحتياط، التي يجب أن تنتقل من العقل العسكري الذي دائماً ما يتوقّع الأسوأ إلى العقل المدني، الذي في الكثير من بلادنا دائماً ما يعمل على أساس أنّ الأسوأ لن يقع. هذا إلى حين أن نخرج فيه من موقع الأضعف عسكرياً وتقنياً إلى موقع الأقوى، وهذا ما قد نراه فقط عندما نرى أولادنا يلهون بطائرة دون طيّار بدل أن يُقتلوا بها.
المصدر: الأخبار