التعديل الجيني بوصفه تجارة وسمسرة
ستيوارت نيومان ستيوارت نيومان

التعديل الجيني بوصفه تجارة وسمسرة

بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، بات بإمكان العلماء تحديد النظام الدقيق للوحدات الفرعيّة لجزيء الحمض النووي DNA، وبحلول الثمانينيات كانوا قادرين على تعديل الحمض النووي (الهندسة الوراثيّة) في النباتات والحيوانات متعددات الخلايا. في العقد الماضي، مكّن ظهور تقنيات الهندسة الوراثيّة عالية الدقّة (CRISPR/Cas9) بعض التطبيقات المفيدة، بدءاً من الإنتاج البكتيري للبروتينات المُستخدمة لعلاج أنواع محددة من الأمراض، ووصولاً إلى استخدام «الجين المحدد marker gene» للمساعدة في الاختيار من بين متغيرات المحاصيل الطبيعيّة ولتعزيز الاستجابات المناعيّة القائمة على الخلايا المضادّة للسرطان. لكنّ حجم هذه الإنجازات صغير بالمقارنة بالاستخدامات العدوانيّة المتزايدة للجينات وبالإيديولوجيات التي تعتمد على الجينات من أجل السيطرة على موارد العالم البيولوجيّة، ومن ضمنها الهندسة الوراثية للبشر أنفسهم، والقائمة على افتراضات تحسين النسل الجديد بأنّ الفشل والتعاسة مرتبطان بالتركيبات البيولوجيّة المتدنية.

تعريب: هاجر تمام

في المجال الزراعي، قامت شركات التكنولوجيا الحيويّة بالضغط بقوّة من أجل حماية براءات الاختراع المتعلقة بالكائنات الحيّة المعدلة وراثياً، والتي يمكن من خلالها إجبار المزارعين على شراء بذور جديدة باهظة الثمن كلّ موسم زراعي. ويتم تهديد المزارعين الذين يزرعون بذوراً تقليديّة تحوّلت دون قصد إلى بذور معدلة وراثياً عبر التخصيب باتخاذ إجراءات قانونيّة. كما سعت الشركات إلى تخويف العلماء الذين تثير أعمالهم الشكوك بشأن سلامة الأغذية المعدّلة وراثياً أو التي استخدمت المبيدات الحشريّة في إنتاجها، حيث تمّ طرد بعض العلماء أو إنهاء تمويلهم بضغط من الشركات، أو سحب منشورات بعضهم الآخر والتبرؤ من نشرها. وقامت الحكومة الأمريكيّة، ضمن سعيها لتحقيق الهيمنة العالميّة لمحاصيل شركاتها، إلى ليّ ذراع البلدان التي ترفض قبول الأطعمة التي استخدمت فيها كائنات معدلة وراثياً في المعاهدات والاتفاقيات، مثلما حصل مع المكسيك وفرنسا، وذلك لحملها على تغيير مواقفها.

في مجال البيولوجيا البشرية: زادت كفاءة تقنيات (CRISPR/Cas9) من دعوات العلماء وأصحاب رأس المال المغامرين وحتّى أخلاقيو البيولوجيا (Bioethicists)، إلى هندسة الأجنّة البشريّة لتجنّب الأمراض أو، بشكل أكثر طموحاً، لزيادة الذكاء أو الجمال أو غيرها من عوامل النجاح الاقتصادي. لا يبدو بأنّ هذا الأمر قد تحقق بعد، لكنّه قد لا يكون بعيد التحقق. فقد تمّ بالفعل تسويق الإجراءات التي تتضمن نقل جينات نواتيّة (مجموعة الجينات الرئيسيّة في خليّة) من بيوض امرأة إلى أخرى، بشكل مضلل إلى العامّة بوصفها «استبدال متقدّري mitochondrial replacement» (مع التركيز على سمة واحدة من بيضة المرأة الثانية، وتمّ الإشارة لها باستبدالك لأحد نوافذ منزلك الذي انتقلت إليه لتوّك). يتمّ استخدام هذه المناورة في جميع أنحاء العالم، وأكثرها حداثة في المكسيك عبر طبيب أمريكي لم يتمكن من الحصول على الإذن بإجراء العملية في الولايات المتحدة. الأمر الذي نادراً ما يتمّ الاعتراف به عند مناقشة سياسات التعديل الوراثي على الأجنّة، هي أنّها أثناء سعيها لتحسين نوعيّة الحياة، فإنّ هناك نسب مئويّة للحالات التي ستقود بشكل حتمي إلى أخطاء تجريبيّة. ما هو مصير الأطفال الذين تلقّى أهلهم وعوداً «بالأفضل»، ولكنّهم حصلوا على «الأسوأ»؟

لقد ظهر علم الجينات والإيديولوجيا الجينيّة مع بعضهما في البلدان الرأسماليّة في أوروبا وأمريكا الشماليّة، والتي عانت نخبها الحاكمة من خسارة نظامها العبودي وكانت في مواجهة مع صعود حركات حقوق العمّال والنساء. رغم أنّه كان علينا أن ننتظر عقوداً قبل أن يعترف العلم بوسائل إنتاجه، فقد كانت إيديولوجيته منذ البداية عميقة في العنصريّة والتمييز الجنسي، بغض النظر عن كونها مشفرة أو مخفيّة. لقد تصارعت البلدان الرأسماليّة في الحرب العالمية الثانية مستخدمة هذه الإيديولوجيا الوراثيّة في أعمال الإبادة. ثمّ عندما أعيد توجيه العلوم الوراثيّة نحو تحسين المحاصيل، تمّ توظيف هذه الإيديولوجيا من تسريع تدمير التشكيلات الاجتماعيّة التي منحت هذه الزراعة وجودها في المقام الأول، لتدمّر معها الوفرة في تنوّع الأصناف النباتيّة التي طورتها على مدى آلاف السنين.

نشهد اليوم استبدال مفهوم الجينات، وهي الفكرة العلميّة التي كانت مستقرة على الدوام، بمفاهيم أكثر تعقيداً من الوراثة التي تتصرّف فيها أنواع عديدة من المسببات والعوامل الداخلية والخارجيّة بشكل متسق أو متناقض. بأيّ حال، لا تزال الإيديولوجيا الجينيّة القديمة تحيا على شكل دعوات متصاعدة من أجل هندسة غذائنا وأطفالنا وراثياً. المواطنون حول العالم يقاومون هذه الهجمات على طرق حياتهم عبر الدعوة لاستمرار الحظر القائم على المحاصيل المعدلة وراثياً، ولوضع محظورات أخرى على تعديل البشر وراثياً. يمكننا فقط عبر عزل العلوم البيولوجيا عن مصالح الشركات والسيطرة على استخداماته أن نضمن قيام تراثنا الفكري الجمعي بتدعيم البشريّة بدلاً من تقسيمها.