الشغل التونسي يطيح بورقة التوت الحكومية
المأزق الحقيقي لدى الحكومات والأنظمة التي تبنت السياسات الليبرالية الاقتصادية، وصدقت تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين، بأنها المخرج الوحيد الذي يمكن أن يخرجها من مأزقها مع شعوبها، خاضعةً للشروط التي تمليها أدوات التحكم والسيطرة الإمبريالية على الدول التي ترى فيها خاصرة رخوة يمكن عبر حفنة من الدولارات المنهوبة من شعوب أخرى أن تقدم لهذه الدول حبل الخلاص من مأزقها مع شعوبها، ولكن الرياح هبَّت بعكس ما تشتهي السفن الحاملة للجوع والبطالة والقهر والتهميش، ولا يمكن أن تكون تلك الحفنة من الدولارات المقدمة كقروض إلا كوارث إضافية تضاف إلى الكوارث التي سببتها تلك الأنظمة لشعوبها، بسياساتها الاقتصادية والاجتماعية وبانحيازها لقوى رأس المال والنهب الكبرى.
تتحرك الطبقة العاملة والحركات النقابية ليس في دول المركز الإمبريالي فقط بسبب أزمتهم الاقتصادية العميقة، بل أيضاً في دول الأطراف التي يجري فيها حراك يتصاعد كل يوم، وتنضم إليه قوى مجتمعية أخرى متضررة، ليصبح الحراك الشعبي أقوى وأكثر فاعلية من حيث تنظيمه ووزنه وتأثيره وقدرته على انتزاع مطالبة.
انفتاح الأفق
كانت المواقف للكثير من القوى تقول: أن الشعوب استكانت ولم يعد لها حَيْل على النهوض مرة أخرى، بسبب الجبروت الإمبريالي عبر أدوات تحكمه وسيطرته الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي: فرض الشروط السياسية التي تؤمن استمرار مصالحه وهيمنته على مقدرات الشعوب بالقوة المباشرة، أو بالقوة اللينة كما يسمونها، ولكن حساباتهم وقرآتهم لم تكن صحيحة، بل مضللة وقاصرة عن رؤية التغيرات التي تجري في ميزان القوى المتدرج، ولكن المتسارع بنفس الوقت على الصعيد العالمي، والذي أصبح الآن واضحاً وضوح الشمس لا يحتاج إلى برهان أو إثبات، والشعوب بدأت تدركه بحسها الطبقي، وبفعل تناقضاتها العميقة مع السياسات التي أفقرتها وأوصلتها إلى حد الإملاق، فكان الطريق الوحيد والخيار الأكيد: أن تواجه ناهبيها بجسدها الحي، قد تنجح في مكان ولا تنجح في آخر، المهم أن الشعوب أخذت زمام المبادرة وكسرت كل الحواجز التي وضعتها الأنظمة في طريقها لتعيق تحقيق التغيير الجذري المطلوب لاستعادة حقوقها السياسية والاقتصادية والديمقراطية، وعلى رأس تلك الحقوق ثروتها التي تنتجها وينهبها الأشرار منها، وبدون أن يكون هذا برنامجها لن تكسب تلك الشعوب سوى مزيد من القهر والحرمان.
النقابات تقود الشارع التونسي
النقابات التونسية الممثلة باتحاد الشغل التونسي كما هي في العديد من النقابات الأخرى التي تلعب دوراً متقدماً في الدفاع عن مصالح وحقوق الطبقة العاملة، وكذلك لها دور مهم في الحياة السياسية في بلدانها، وفي هذا السياق النقابات التونسية تواجه السياسات الحكومية بما فيها سياساتها في الاقتراض من صندوق النقد الذي أملى شروطه المعروفة على الحكومة التونسية بتخفيض الأجور وعدم زيادتها، وسحب الحكومة من دورها الاجتماعي الاقتصادي وإعطاء القطاع الخاص الدور السيادي على الاقتصاد التونسي، وهذه الشروط هي بعينها السياسات الليبرالية التي عززت البطالة والفقر والتهميش للشعب التونسي، والتي بأسبابها نزلت الطبقة العاملة إلى الشارع، وهي الأن تعاود الكرة رافعةً شعاراتها التي تعبر بها عن موقفها الطبقي المعادي لتلك السياسات، وموقفها الوطني الرافض لسياسة التطبيع مع العدو الصهيوني والرافض لشروط البنك الدولي، والمنادي بسيادة القرار الوطني وعدم خضوعه للشروط المفروضة عليه، وقد لخّص الإضراب الواسع- الذي شارك فيه ما يقارب من 650 ألف عامل في القطاع الحكومي- موقفه بثلاث قضايا أساسية، وهي تعبير عن برنامج النقابات التي تناضل من أجلها« حرية.. كرامه.. عدالة ».
لقد عبرت الحكومة التونسية ذات الأصول الإخوانية عن جوهر موقفها المعادي لمصالح الشعب التونسي، برفضها زيادة أجور الموظفين العاملين في القطاع الحكومي، وخضوعها لشروط أسيادها الإمبرياليين وممثليهم في صندوق النقد الدولي، ولكن في المقابل توحدت القوى الوطنية والديمقراطية وفي مقدمتها اليسار التونسي في دعم موقف النقابات والمشاركة الواسعة معهم، وهذا يعدل موازين القوى ويجعل إمكانية انتزاع المطالب محققاً، والأهم، أنه تتصدى لموقف التطبيع مع العدو الصهيوني، وتجعله مرفوضاً شعبياً، وكل من يذهب إلى هذا الخيار الخياني سيذهب إلى مزبلة التاريخ، التي هي المستقر النهائي لكل من يخون قضية شعبه وحقوقه.