أي إنسان على أعتاب العالم الجديد؟
محمد معوش محمد معوش

أي إنسان على أعتاب العالم الجديد؟

عندما تشكل علم النفس كَعِلم، منذ ما يقرب القرن نفص القرن، كانت الرأسمالية في مرحلة توسعها العالمي، وكانت أشكال الاستغلال لا تزال مباشرة بقوة الحديد والنار حصراً ضد القوى المُستَغَلة. ولم تكن هناك حاجة لأدوات تضليل أو تلاعب بالوعي كما هي اليوم. وفي هذه الظروف تشكَّل ما يسمى علم التحليل النفسي، الذي حصر موضوعه وقتها بالفئات البورجوازية، الأوروبية منها تحديداً. وعلى أساسه أفرزت مقولات الوعي واللاوعي، وحيث أُعطي للاوعي تلك القدرة «الخفية» على التحكم بوعي الإنسان وسلوكه، وكون اللاوعي هو مكمن الطاقة الدافعة (ما سمي بالـ «هو») التي تستعصي على القبض عليها من قبل الوعي و«الأنا» تحديداً.

الصراع التاريخي وإفرازاته

بعد قرن من الزمن حصل انزياح كبير على مستوى الحاجات في المجتمع البشري نتيجة الصراع الطبقي العالمي، حيث تمكّنت الطبقات المسحوقة من انتزاع حقوق وتنازلات من النظام الرأسمالي، والتي شكلت نقطة علّامها الرشوة التاريخية في منتصف القرن الماضي. هذا الانحياز أدى إلى ظهور الحاجات المعنوية- النفسية في إطار الفئات الدنيا من المجتمع، وصار علم النفس السائد ومقولاته إحدى أدوات القمع والتضليل الجماهيري من جهة، ومن جهة أخرى صار أحد أهم العلوم الجذّابة التي تحاول الجماهير أن تجد فيها ما يحلّ أُحجيات عقلها ونفسيتها، علّها تجد فيها إجابات على دواخلها المتصارعة والمتناقضة، وعلى حاجاتها المكبوحة بسبب بنية الاستغلال وعدم الإشباع والرضا في إطار علاقات رأس المال.

الوعي واللاوعي

إحدى أهم المقولات هي «أسطورة» اللاوعي التي يحاول عبرها الفكر السائد أن يزيد الغموض على الفكر الإنساني، وخصوصاً نزع «الإرادة الحرة» عن الإنسان. هذه القدرة التي لا يتملكها الإنسان حسب زعمهم إلا من خلال مشاعل «النور» الذين هم المعالجون النفسانيون، الذين يكشفون المستور من أغوار النفس الدفينة. ولكن ما لا يقوله العلم والفكر السائدان: أن هذا القسم من البنية النفسية المسمى باللاوعي ليس إلا انقساماً تاريخياً في البنية النفسية غير مطلق وغير أبدي. وليس إلا تعبيراً عن الانقسام التاريخي في المجتمع الطبقي. فالمجتمع الطبقي يقمع الحاجات الذاتية ولا يسمح بتحقيقها، ويسبب بكل أشكال الأذية النفسية الذاتية للإنسان، والتي يمكن تكثيفها بقانون التهميش والتغريب في المجتمع الرأسمالي. هذا القمع وهذه الأذية ضد حاجات الذات للتحقق والاعتراف بها هما مصدر كل الدوافع التي يشكل «اللاوعي» إطاراً لها. ولكن هذا لا يكفي لكي يحصل الانقسام بين وعي ولاوعي. لذلك فالعنصر الآخر هو: أن الفكر السائد وثقافته لا يملّك الفرد أدوات تفكير علمية قادرة على وعي حاجاته وأشكال تحقيقها الحقيقية الضرورية. لا بل على العكس، إن الفكر السائد وثقافته حسب التمايزات بين المجتمعات، إما ينتجان أفكاراً قامعة للحاجات الضرورية (الرجعية المحافظة والزّهد الطّهراني)، وإما يشوهان أشكال تحقق هذه الحاجات إذا لم يقدرا على القمع المباشر (الليبرالية والهستيريا والفراغ البارد الناجم عنها). لهذا يصبح الفرد حاملاً لأفكار معادية لذاته، ويتبلور هذا الانقسام فيه بين الضرورة الموضوعية التي تمثل حاجات التحقق الذاتية الطامحة للاعتراف، وبين مفهومه عن العالم وعن نفسه.

انقسام قابل للحل

إن العيادات المليئة بالـ «مضطربين نفسياً» وملايين الكتب التي تتوجه إلى الجماهير تحت مواضيع نفسية «جذابة ومغرية»، وسوق حبوب وأدوية الأعصاب التي تشكل نسبة عالية من الأرباح لشركات الدواء، وآلاف الأفلام العالمية التي تتناول هذا الميدان، وعشرات ملايين حالات الاكتئاب والقلق، وعشرات آلاف المنتحرين، والباقين الغارقين في عدمية وانهيار معاني الوجود، كلها دليل على أن هذا الميدان هو تعبير جدّي عن عمق أزمة النموذج الرأسمالي. ولكنها أيضاً دليل على أن هذا الميدان أصبح في صلب أي برنامج يدعو إلى تغيير العلاقات الاجتماعية. التي عليها أن تطال كل هذه المعاناة، وأن تقدم بالملموس الإجابات عنها. وإذا ما عدنا إلى مقولة «اللاوعي»، فالطرح البديل والبرنامج البديل يضعان هذا الانقسام في البنية النفسية على طريق الحل. فإذا كانت القوى الثورية في القرن الماضي عليها أن تبث للناس قوانين الحركة السياسية والاقتصادية ومجمل قوانين الأحداث الاجتماعية لكي تملّكها واقعها، فإنه لزاماً عليها اليوم وبسبب الانزياح التاريخي والتطور في الحاجات أن تبث قوانين الوعي نفسها في تلاقيها مع القوانين الاجتماعية السياسية. هذا التدخل الواعي يحرر الفكر من كوابح أدوات التفكير السائدة المعادية التي ذكرناها أعلاه، ويوسع من قدرة القسم المفكر على تملك قوانينه نفسها. وبالتالي، من توسيع دائرة حريته، إذا ما قلنا إن الحرية هي وعي الضرورة.
وهذا التوسيع لدائرة حرية الفكر الفردي (الجماعي بالضرورة) سيعزز من إمكانية مواجهة الحرب التي يخوضها الفكر السائد من خلال أسلحته الفكرية والثقافية. وأكثر من ذلك، سيشكل تحول الفكر من خاضع لقوانين الذات «اللاواعية» إلى متملك لها، والتي إذا ما رُبط شكل تحققها بالتغيير الاجتماعي الذي هو شرط ضروري، حينها يتم إدخال قوى كبيرة إلى حلبة الصراع السياسي، التي لا تزال اليوم تتخبط إما في اضطرابها أو في سعيها العاجز عن التحقق.

علامات مبكرة

قال العديد من العلماء السوفييت: أن العالم الجديد هو أساس إزالة الانقسام الذي مزّق الإنسان داخلياً، وبهذا الكلام هم يعيدون كلام ماركس على أن العالم الجديد الاشتراكي على طريق الشيوعية هو عودة الإنسان إلى ذاته. ولهذا التحول مفاتيح معروفة: إشراك الجماهير في إدارة المجتمع من جهة، وإزالة العمل المأجور والتقسيم العالي للعمل، وأن يكون عمل الفرد شاملاً يعود بالنفع على المجتمع ككل، فتكون القيمة، ويكون الاعتراف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
925
آخر تعديل على الأربعاء, 07 آب/أغسطس 2019 13:53