المطار.. مطارك!

المطار.. مطارك!

وأنا جالس في قاعة انتظار المسافرين في مطار دمشق استعداداً لركوب الطائرة، وإذ بمجموعة من النساء الخليجيات لم أتمكّن من تحديد جنسية بلدهنّ، يتّجهْنَ صوبي مسرعات كفصيلة عسكرية تلاحق مطلوباً. وما إن اقتربْنَ منّي حتى بادرتني أكبرهنّ سنّاً وأكثرهنّ بدانةً بالقول وهي بمنتهى العبوس:

- لو سمحت اجلس بعيداً من هنا.. هيّا!
وأشارت بيدها إلى مقاعد تبعد عني حوالي خمسة أمتار.
تمعّنتُ بها باستغراب! يا إلهي، إنها تتحدّث بجدّية تامة! قلت لها وأنا لم أستوعب أمرها بعد:
- عفواً، لماذا يا سيدتي؟!
صاحت باشمئزاز وكأنها دائنةٌ لي بمبلغ وأنا أماطل بالتسديد:
- ألا ترى الحريم، سيجلسْنَ إلى جانب بعضهنّ.. والمقاعد لا تكفي إلّا إذا غادرت مقعدك إلى جهة أخرى.
نظرتُ مجدداً إلى موكبها وأحصيت بلمح البصر عددهنّ وعدد المقاعد الخالية إلى جانبي؛ وجدتُ أنه إذا ابتعدت عنهنّ مسافة مقعدين، يكفي ذلك لهنّ ليجلسْنَ جميعهنّ.
حملتُ حقيبتي وابتعدتُ مسافة ثلاثة مقاعد إمعاناً منّي بتوفير المزيد من الراحة لهنّ وجلستُ.
إلّا أن ذات السيدة صاحت مجدداً بصوتٍ عالٍ كجنرالٍ يخاطب جندياً برتبة وضيعة وهي تتصبّبُ غضباً:
- لو سمحت يا سيّد، اجلس بمكان أبعد..
مسحتُ المكان بنظراتٍ باحثةٍ عن طاقم (الكاميرا الخفيّة) إذ من غير المعقول أن تقمْنَ مجموعة من النساء الملفّحات بالسّواد بمطاردتي وأنا على أرضي وبين جمهوري!
لم أجد ما يوحي بأن ثمّةَ مقلباً يُدبّر لي!
نظرتُ إليها مبتسماً وقلت لها ممازحاً:
- لقد بلغتُ من العمر عتيّاً ولم أجد أظرف منك يا سيدتي.. فعلاً أنت دَمِثَة، وأشكرك على إصرارك الذي جعلني أبتسم حقاً.. كم نحن جميعاً بحاجة إلى الفرح والضحك في ظلّ ما تتخبّط به شعوب الشرق عموماً بالقهر والذلّ، من جرّاء حكّامها وأنظمتها الاستبدادية..
ويا لهَوْلِ ما ذكرت!
بعقتْ بصوتٍ ذكّرني ببوق إسرافيل قائلةً:
- أنا لا أمزح معك يا سيد! قلت لك هيّا لو سمحت، غادر المكان بسرعة!
اختفت ابتسامتي سريعاً كانزواءِ شمسٍ خلف غيمةٍ داكنةٍ في عاصفةٍ تنذر بكارثةٍ عظيمة. وقلتُ في نفسي:
«الهريبة ثلثين المراجل، هذه المرأة تستفزّني لاستدراجي إلى خوض معركةٍ خاسرةٍ، وأنا في غنى عنها».
حملتُ حقيبتي وابتعدتُ مسافة عشرة مقاعد. وجلستُ أراقبها مع صويحباتها اللواتي بدأن يجلسن إلى جانب بعضهنّ وضحكاتهنّ تعلو مزقزقةً وكأنّهنّ حقّقنَ انتصاراً مهولاً.
شعرتُ بحزنٍ دفين يمور في داخلي وأنا أتأمّلهنّ. إنهنّ ضحايا أنظمة قروسطية أكل الزمان عليها وشرب.. وعتبي عليهنّ أنّهنّ يستمرئْنَ عبوديّتهنّ، وينعدم لديهنّ طموح التغيير الاجتماعي والإنساني.
التفتُّ إلى جانبي الآخر، وإذ بصبية (سورية) جالسة تتصفّح موبايلها وهي تبتسم.
وخشية أن يتكرر ذات السيناريو مع هذه الصبية قلت لها مستغفراً:
- العفو يا آنستي، هل تسمحين لي بالجلوس في مقعدي؟
نظرت صوبي بمحبة وابتسامة الرضى تعلو وجهها الجميل وافترّ ثغرها عن عبارة أثملتني:
- وَلَوْ أستاذ، المطار مطارك..