مهند عمر مهند عمر

يوم في القدس

ثورة المعلومات والاتصالات التي نعيشها متأخرين كعادتنا في كل شيء، سمحت لي ولمدة يوم كامل أن أدخل أحد بيوت القدس عبر كاميرا «المسنجر» وأعيش مع عائلة مقدسية تفاصيل حياتها اليومية، بدءاً بفنجان القهوة ولفافة التبغ وصولاً إلى مراجعة دروس الفتاة الصغيرة استعداداً لامتحانات مادة التربية الوطنية.

الحالة كانت شبه جنونية، فما كان لي أن أحلم حتى أنني سأزور مدينة القدس في ذاك اليوم، وأن أعيش مع العائلة المقدسية صوتاً وصورة، متحدياً كل حواجز الاحتلال، وهارباً من كل تفاصيل حياتي اليومية لأعيش تفاصيل حياتهم، وأشاركهم فرحهم وحزنهم وغضبهم، لأسمع اللكنة المقدسية المميزة تتساقط على مسمعي كالمطر، ولأعرف الكثير عن مناهج التعليم الفلسطينية في القدس والمهددة بالانقراض، لتعلمني طفلة من القدس لم تتجاوز الثامنة من عمرها أن نابلس تصنع الصابون وأن الخليل تشتهر بزراعة العنب وصناعة الدبس.
أجمل ما عايشته خلال تسللي إلى بيت هذه العائلة خلسة عن عيون جنود العدو وشرطته، وحتى حرس حدوده الذي قتلنا في الجولان، هو التحضيرات لعرس الأخ الأصغر، فقد أمسى المنزل بعد ظهر ذاك اليوم كخلية النحل الجميع يعمل على الاستعدادات للعرس الذي كان لي نصيب فيه عبر انتقاء الأغاني لهذه المناسبة العائلية، لعائلة يربطني بها كبل إنترنت وتاريخ وجغرافيا ونكبة ووطن مقطع الأوصال، كانت الطفلة تتراقص أمام الكاميرا لتريني لون طلاء أظافرها وخصال شعرها الملونة، وتطالبني بعدم التخلف عن العرس في براءة تجاوزت الاحتلال والبنادق، وكسرت حواجز لم تستطع الدول العربية مجتمعة كسرها.
الأم تستمر بتعاطي لفافات التبغ الواحدة تلو الأخرى رغم كل السعال الديكي الذي يوقظ الجيران في كل صباح، حاولت بمختلف الوسائل ثنيها عن التدخين وبعد سجال طويل حرصاً على صحتها أصرت على أن «ما حدا بموت ناقص عمر»، فابتسمت وعدت أطيل النظر في عينيها اللتين تشعان تحدياً وإصراراً غريباً على الحياة والبقاء.
طفل صغير لم يتجاوز الخامسة من العمر يصيح أريد عشرة، وعند سؤالي جاء الجواب مؤلماً صاعقاً: «إنه يريد عشرة شيكل».. شعرت بغربة للحظات وأنا داخل وطني، ولكن ابتسامة محبوبتي لمياء جاءت لتعيدني طفلاً عابثاً يطالب بمصروفه اليومي دون أن يغوص عميقاً في معاني العملة وأهمية الاقتصاد السياسي.
ولكن للأسف فإن زيارتي انتهت، فاليوم مر سريعاً ودعت أهلي في القدس حازماً أمتعتي مغلقاً كمبيوتري المحمول، لأعود إلى دمشق لاجئاً من جديد بانتظار أن تحملني الريح مرة أخرى لأطوف في أزقة مدينة أحببتها وأحبتني، ولكنني بكل صراحة بت اليوم أخشى أن يتهمني بعض المغالين بالتطبيع بعد أن زرت القدس عبر الانترنت وهي تحت الاحتلال