انهض وقل لاءك صارخاً
الاهتمام بالأدب الإفريقي عموماً، ما زال قليلاً، فقد ترجم منه القليل إلى اللغة العربية عن الإنكليزية والفرنسية لا من اللغات الإفريقية الوطنية لعدم وجود اختصاصيين فيها، ولم تنشأ حركة ترجمة حتى الآن من اللغات واللهجات المحلية المدونة منها على الأقل.
ربما لا يعرف العالم العربي عن الأدب الأفريقي اليوم سوى ذلك القليل الذي جرى نقله عن اللغات الأوروبية، والذي يصدر صورة نمطية عن الإنسان الإفريقي، صورة تحاول جعلنا نصدق أن هذا الإنسان وقف موقفاً سلبياً ولم يحرك ساكناً إزاء الظلم الذي تعرض له.
الحقيقة إن إفريقيا بكاملها لم تهدأ يوماً، وبلغ الغليان ذروته عشية انهيار الاستعمار القديم منتصف القرن الماضي، ونستطيع تتبع هذه الحركة في أعمال مختلف الشعراء والأدباء في تلك الحقبة.
«تحدي القوة»
يدعو الشاعر السنغالي دافيد ديوب في قصيدته «تحدي القوة» ذاك الإنسان (الذي يركع وينوح وسيموت يوماً دون أن يدري لماذا، والآخر الذي يسهر من أجل راحة غيره حتى نسيت عيناه الضحك، وأخاه ذو الوجه الخائف القلق) إلى النهوض بقوة ضد الاستعمار الفرنسي، «أنت أخي.. انهض وقل لاءك صارخاً».
أفعوان بألف رأس!
ويسخر الشاعر الكاميروني فرانسوا سانغات كيو في قصيدته «قالوا لي» من مقولة «أنتم زنوج لا تصلحون إلا للخدمة والموت على ثلوج أوروبا» التي كان يروج لها الاحتلال البريطاني.
ويضيف: «ولما هشمت حلقات خضوعي الجبان، جعلت يدي في أيدي منبوذي الكون، فقالوا لي، يائسين، غير قادرين على إخفاء فتنة رعبهم: مت فأنت لست سوى خائن، لكنني إفعوان بألف رأس».
كـ«ليلة لا قمر فيها»!
«أنا زنجي، اسُتعبدتُ على عهد القيصر، شيدتُ الأهرام والقصور وناطحات السحاب، أنا أسود كليلة لا قمر فيها، دمي روى سهول أوربا الأنانية، وجدي زرع مشاتلها، وعمر مصانع المعمرين والأمريكيين، انا زنجي يتذكر أبداً أغلاله الكثيرة..»، هكذا يصور الشاعر زغوا شارل ناكوان من ساحل العاج في قصيدته «مفكرة سجن» شعبه، «الكادح المقتول على باب كوخه»، ويرسل تحيات التضامن إلى فييتنام وسان دومينغو والجزائر وأنغولا وموزامبيق قائلاً: «أنا الأسود الفخور الذي يرفع قبضته في وجه القمع».
تكلم من أجل حبك
يتأمل الشاعر طوماس راهاندارها من مدغشقر الغليان الذي بدأ شعبه يصبه على الأجنبي، ويدعوه إلى التكلم بقوة، من أجل الذين سحقتهم الوشاية، وسمّلت عيونهم القضبان الحديدية.
يتوجه مباشرة إلى الشعب فيقول: «ستتكلم من أجل حبك، من أجل المطاردين، والمدانين، ستتكلم لأنك تبغض العنف والوشاية والكراهية، ستتكلم حتى تخوم البحار والليالي، لكي يأتي النهار».
صدفة نادرة!
الشعر الإفريقي، لا يخلو من معاني التمرد في سبيل الانعتاق، ويبدو في مضامينه كحجة طاعنة ضد العدمية، والعبودية، وخاض شعراؤه معارك طاحنة ضد العبودية والاستغلال والاستبداد والظلم، وذلك عبر الانفلات عن واقع الاستعمار الأوروبي، والتأسيس لملحمة الانعتاق والحرية في سبيل استرجاع الهوية الإفريقية والإنسانية التي تعرضت زمناً طويلاً للتهميش والنسيان.
وكان أحد هؤلاء دينيس بروتوس الإفريقي ذو الأصول الأوروبية، الذي ولد عام 1924 في مدينة سالسبوري في روديسيا، وهي هراري، عاصمة زيمبابوي حالياً، وغادرها مع والديه إلى جنوب إفريقيا حيث مسقط رأسهما الأول.
شكلت أجواء الوضع السياسي والاقتصادي هناك، إيقاع تطوره، وتفاصيل تحوّلاته إلى يوم مماته. ويعتبر واحداً من أولئك الذين لم يهتموا بالكلمة وحدها، ولم يكن شِعرهم معزولاً عن النضال السياسي، إذ تكشف سيرة حياته عن كونه بدأ مناضلاً في صفوف المؤتمر الوطني، ضد النظام العنصري في بلاده، ووقف في صفّ الزنوج، والعبيد، والسود، مديناً الأشكال العنصرية كافة، كاشفاً بذلك تجلّياتها ومخلّفاتها ورجعيتها التي لم تؤسس لغير التنكيل بالحياة الإنسانية. كانت حياته حافلة بالسجون، نتيجة مواقفه النضالية، ومن الطريف جداً أنه سجن أول مرة في الزنزانة نفسها التي سجن فيها قبله الزعيم «المهاتما غاندي»، في جنوب أفريقية، حيث كان هذا الأخير مغترباً هناك. وحين حاول الهرب، اخترقت ظهره رصاصة نجا منها بأعجوبة، وجرت إعادته إلى السجن، في جزيرة روبن ، ليكون في الزنزانة المحاذية لزنزانة الزعيم التاريخي «نيلسون مانديلا».
إنتاجه غزير، ترك الكثير من الأعمال منها، «صفارات إنذار»، و«رسائل إلى مارتا»، و«رسائل أخرى من سجن جنوب افريقية»، و«مفاصل أربعة»، و«قصائد من الجزائر»، و«شهوة عادية»، و«أمل عنيد»، و«ذكرى سويتو»، و«أوراق تذروها الرياح».
بقيت ذكراه بعد موته مستمرة في جنوب أفريقيا، لأنه واحد من أولئك الذين قرروا خوض معارك دامية ضد الظلم، فظلت قصائده تقاوم في أمكنة كثيرة، وهو ما جعل من البعض يصفه بـ«العالمية»، فشعره يدرس الآن في «روبن ايلند»، وفي العديد من المدارس والجامعات.