زمـن الأنـبياء الـنيتشويـين
نازعت السكاكيني دوماً الأشواق إلى أن يملك رسالة فلسفية ما ينشرها ويدعو لها. كان يتحرق شوقا إلى أن تكون له رسالة نبوية. وكان نيتشه قد سحر، في بداية القرن العشرين مثقفين كثيرين من بلاد الشام بكتابه «هكذا تكلم زرادشت». ويمكن رؤية الصدى القوي لهذا الكتاب في «نبي» جبران، وفي غيره من الآثار.
وقد ظل هذا السحر، في رأيي، قويا حتى الخمسينيات. ولم يفلت منه ميخائيل نعيمة في «مرداد». والسكاكيني لا ينكر أبدا تأثير نيتشه عليه: «أنا مدين لنيتشه وأميركا». فأمريكا بحسب هذا التصريح علمته، في الفترة التي قضاها فيها عاملا، الكدح والقوة الجسدية. أما نيتشه فقد أعطاه فكرة القوة الجسدية. وأغلب الظن أن أول تعرفه إلى نيتشه كان في أمريكا عبر فرح أنطون وجريدة «الجامعة»، ثم تعرف عليه أكثر في ما بعد. وكان يطمح في أن يكون له شيء يشبه ما فعله نيتشه، أو ما فعله المتأثرون العرب به: أي رسالة ودعوة وفلسفة ما. وهو لا يني يهدد، في يومياته، بأنه سوف يتوصل إلى هذه الفلسفة ويدعو إليها. إليها. يقول في16-3- 1935:
«أنا الآن لست شيئا، ولكن لا بد أن أكون لنفسي رأيا أتبعه، وأدعو إليه، وأبشر به في القريب العاجل؛ إما الاشتراكية وإما الفوضوية، وإما النقابية».
وفي 28-3- 1935 يكتب لسري:
«إني أحس أن الوقت الذي أعلن فيه رسالتي قريب جدا». وبعد ثلاثة أيام يكتب لسري أن نخبة من الشبان زاروه وأنهم قرروا معا أن يشكلوا جمعية باسم «إخوان الصفا»: «غرضها أن ندرس معا لنضع لنا رسالة مبنية على العلم نعيش لها ونبشر بها».
وهو يكرر مثل هذا مرات عديدة في يومياته. ويحس قارئ السكاكيني الآن بقدر لا بأس به من السذاجة في إعلانه أنه لا بد له من العثور على رسالة ما: اشتراكية أو فوضوية أو نقابية! فالمهم ليس مضمون الرسالة، بل وجود رسالة، أي رسالة كانت! فقد كانت تلك الأيام أيام «موضة الرسالة». كان لا بد لكل كاتب كبير من رسالة ما. كان لا بد له أن يختفي وراء «زرادشت» ما، «نبي»، أو «مرداد» يهبط من قمة الجبل لكي ينشر رسالته وتعاليمه. وما لم يتمكن من فعل ذلك يظل كاتبا من الدرجة الثانية في ما يبدو.
لكن السكاكيني لم يكن رجل نظريات ورسائل فلسفية. كان رجل عمل؛ يبني مدارس، ويؤلف كتبا تبدأ بـ«راس... روس»، ويحدّث اللغة بشكل عملي، كي تكون نافعة للاستعمال. وحتى حين أخذ شيئا من نيتشه فقد أخذه من الناحية العملية. فالاحتفال بالجسد القوي عند نيتشه، تحول إلى احتفال عملي عند السكاكيني، إلى عرض مدهش لتمارين الاغتسال والنظافة والمشي. أما «الوحش الأشقر» النيتشوي المفترس فتحول عنده إلى قوة عضلية، بسياج أخلاقي صارم، في الوقت الذي كان وحش نيتشه يسبح في عالم ما بعد الأخلاق. لم تكن لدى السكاكيني طاقة نظرية أو شعرية عالية كي يكتب مثل «هكذا تكلم زرادشت». عليه، فقد حول الفلسفة إلى عرض عملي.
كذلك لم تكن عند السكاكيني طاقه شعرية تهويمية كي يكتب «النبي» أو «مرداد». لكل هذا، فقد كان أسهل عليه أن يحول الفلسفة إلى رياضة ونظافة، وإلى نظام حياة أخلاقي: يكره ضعف الناس وخنوعهم وتواكلهم وكل ما في حياتهم الباطنية والخارجية من قذارة وبشاعة، على حسب ما قال ميخائيل نعيمة في وصفه لتأثير نيتشه على جبران.
وقد ربط السكاكيني، كما ربط غيره في ذلك الوقت، بين نيتشه والمتنبي. لكن السكاكيني وجد أن هذا الربط يتمثل في فكرة القوة والجرأة الروحية عند الاثنين، لا في فكرة التشاؤم التي رآها البعض مشتركة بين المتنبي ونيتشه. فقد كان السكاكيني متفائلا بطبعه، ومنذ البدء. يقول في وصية له كتبها عام1917: «ولما كان لا بد للإنسان من صبغة فلسفية فأحب أن تكون فلسفة سري [ابنه] السرور». لكن هذا التفاؤل تحطم، بالطبع، بعد غياب سلطانة.
في كل حال، فقد ظلت أحلام (الرسالة) تطارد السكاكيني دوما، لتظهر أحيانا في شكل دعوات ساذجة مثل «دعونا ننقرض»، أو غيرها من الدعوات. لم يكن السكاكيني يدرك أنه كان ينجز رسالته على الأرض عبر لغته المجسدة في اليوميات، وعبر كتاب «الجديد» للقراءة في الصفوف الابتدائية الأولى. كان يحلم بالوصول إلى رسالة أخرى موعودة، يهيئها له المناخ الأدبي في عصره. وقد غادر دون أن يتمكن من الوصول إليها. لقد عاش ومات إنسانا حرا ونظيفا، لا نبيا. ويمكن للمرء أن يتساءل الآن بحق، عما إذا كان «مرداد» ميخائيل نعيمة أهم من يوميات السكاكيني. بل لعل من حقه أن يتساءل إن كان «جديد» السكاكيني، الذي درّس في عدة بلدان عربية، أقل أهمية من «نبي جبران».