الإبداع.. والكهنة الجدد
كفاح سعيد كفاح سعيد

الإبداع.. والكهنة الجدد

يؤكد مسار تطور الفكر الإنساني أن الإنتاج الفكري بمجالاته المتعددة بما فيها الفن، يتبدل ويتحول مع تبدل الإنتاج المادي وتحوله، بمعنى آخر نحن أمام سيرورة تاريخية اجتماعية، تنتج في كل مرحلة تاريخية، حاملها الذهني الثقافي المكمل لها، ولكن المستقل عنها نسبياً في الوقت نفسه.

ومع التقسيم الاجتماعي للعمل، واتضاح معالم البنية التحتية المتجسده في العلاقات الاقتصادية، بدأت كل طبقة بالإفصاح عن البنية الفوقية التي تشمل فيما تشمل، البعد الفني الجمالي، المتوافق معها، والمعبر عنها، والدالّ عليها، وعليه فإن الانقسام الطبقي الذي حصل في الحقل الاجتماعي، أنتج الحالة الضدية في الحقل الثقافي أيضاً، وتجلى ذلك في سياق التطور بأن «جميع الطبقات التي تَضطهد تحتاج من أجل الحفاظ على سيادتها إلى وظيفتين اجتماعيتين: هما وظيفة الجلاد، ووظيفة الكاهن، فالجلاد يترتب عليه أن يقمع احتجاج المضطهدين واستنكارهم، أما الثاني –الكاهن– فيترتب عليه أن يعزي المضطهدين ويصور لهم إمكانية تخفيف هول تلك المصائب، والتضحيات مع بقاء السيطرة الطبقية»، أي أن الكاهن هنا منوط به قمع عملية وعي «الذات الطبقية» لدى عامة الناس، مكوناً مجاله الحيوي، ودائرة تأثيره من خلال المقدس «الديني» في البداية،  أو لاحقاً من خلال الهيمنة على الوعي، وتقديس الإله الدنيوي «المال» من خلال ترويج ثقافة الاستهلاك، أو تعويم الموقف اليومي المضلل غالباً، أو من خلال وعي هجين مركب يستند على هذا وذاك معاً.

الكهنة تغيير الدور.. بقاء الوظيفة!

من جملة ما تم التر+++++++ويج له، من طرف الكهنة، و جرى الصراع حوله، هو استقلالية الفن المطلقة، والمزعومة عن الصراع الاجتماعي، تحت راية «الفن للفن»، أو ما يسمى «الأدب الحر» لتكون مثل هذه الأطروحات ستارة لما يسمى بالفوضوية، التي تعتبر التمثيل الدقيق عن النظرة البرجوازية للفن بمجالاته المختلفة، من سينما ومسرح وشعر ورواية ورسم وموسيقا.

إن استقلالية المبدع الحقيقي، وخصوصياته الذاتية التي تعبر عن بنيته النفسية المتميزة، و«فوضاه»، لا تعني بالضرورة أن يكون نتاجه الإبداعي معلقاً في السماء، وبلا هوية اجتماعية، ولا طعم، ولا لون، ولا رائحة، أو يبدو هذا المبدع مجرد كائن يجتر هلوسات ذاتية، في قالب نخبوي، لا تعكس حقيقة كونه جزءاً من شبكة العلاقات الاجتماعية، وإذا أردنا الدقة أكثر، والحديث عن الوقائع كما هي، فإن العكس هو الصحيح، من الناحية الموضوعية على الأقل، حيث يجب أن يكون الإنتاج الابداعي تعبيراً عما يجري في الواقع الاجتماعي، استناداً إلى أن المبدع يمتلك درجة عالية من الحساسية، تجاه كل ما يعكر صفو الحياة الإنسانية، وبالتالي هو الاكثر تأثراً، بضجيج رحى القهر المادي والروحي التي تؤدي بالإنسان إلى الاغتراب، أي إلى الموت بالمعنى الروحي، وإن بقي وجوده الفيزيائي مستمراً.

تلامذة كسالى!

إن التأكيد على علاقة الفن بالصراع الاجتماعي، واعتباره امتداداً لهذا الصراع في مجال تلبية الحاجات الروحية للانسان، لا يعني كما يتوهم كهنة الحداثة الرأسمالية، وأتباعهم من التلامذة الكسالى، من المقلدين، والتابعين في البلدان الطرفية، مصادرة حق المبدع في التعبير عن مكنونات الذات المبدعة بالأدوات الفنية - الجمالية التي يمتلكها، والتي تعطيه الفرادة، والتميز والخصوصية، ولا يعني بحال من الأحوال الدعوة إلى تحويل العمل الابداعي إلى مجرد شعار سياسي - أو حزبي، وجعله ملحقاً بشكل مباشر بالخطاب السياسي، بل هو تاكيد على عدم إمكانية الوقوف على الحياد في الصراع الجاري، بأشكاله المتعددة، يعني أن يكون المبدع مرآة حقيقية لما يجري، بالطريقة التي يريد، وباللغة التي يريد، وبالأدوات الفنية والمعرفية التي يمتلكها، وبتجربته الإبداعية التي يختزنها..

الاستقلالية عن ماذا؟

منذ أن استقل الإنسان عن المملكه الحيوانية، بات أي عمل يقوم به، تعبيراً عن حاجة، وبات لأي سلوك يقوم به وظيفة، من الطبيعي والحالة هذه أن يكون للفن وظيفته أيضاً، فلماذا يكون لحفيف الشجر وظيفة، وللنار وظيفة، ولنباح الكلب وظيفة، ولا يكون للعمل الفني الإبداعي وظيفة؟! لا سيما وإن  هذا العمل افتراضاً هو الرماد الذي يتبقى بعد أن تشب النار في الروح المبدعة، على خلفية رؤية مشهد، أو سماع موقف، و باعتبار أن الصراع الاجتماعي هو أساس كل صراع، فإن أحد مدلولات الإبداع الحقيقي، تكمن أيضاً في الوقوف مع أحد طرفي الصراع.

إن المجال الإبداعي مجال مفتوح، يتضمن العلاقات الانسانية بأشكالها المختلفة، بدءأ من العلاقة مع الطبيعة، والروابط الأسرية، والحب، وانتهاء بالقهر وتجلياته المختلفة حسب ما تمتلكه قوى القهر من أدوات في هذه المرحلة أو تلك ( الحرب – القمع – التمييز....) المعيار الموضوعي «الحر» إذا شئتم!، الوحيد الذي يقيم العمل الإبداعي على أساسه، هو مدى توافقه مع إغناء العالم الروحي للانسان، ومدى قدرته على تحفيز المتلقي للعمل على تحرير هذا الكائن من كل قيد، من كونه الوعاء الذي يبلور منظومة القيم الإنسانية ضد التوحش والعبودية، ضد الاستلاب والاغتراب.