هوسة بدوية!
خليل صويلح خليل صويلح

هوسة بدوية!

مرةً أخرى ينبغي التأكيد بأن الكتابة مهنة شاقة، خصوصاً في اللحظات المفصلية كالتي نعيشها اليوم، إذ يصعب أن يحلّق الكاتب بعيداً عمّا يدور حوله، وما يعانيه مباشرة من كوابيس متلاحقة. الشارع الذي كنا نعبره بطمأنينة، يحمل الآن ذاكرة أخرى، تحتاج إلى تدوين مختلف، لكن معضلة أخرى ستواجهنا، تتعلق بغبش الصورة، وعدم وضوحها، وهذا ما يحتاج إلى تأمل وتمحيص لاكتشاف تضاريس تلك الصورة ببلاغة أخرى، وتمرينات على كتابة جديدة غير مراوغة، هي كتابة اللايقين. 

هكذا وجدت في كتاب «الكاتب وكوابيسه» للأرجنتيني الراحل أرنستو ساباتو دليلاً لإضاءة لحظة معتمة يصعب توصيفها بدقة، على عكس ركام كتابات كثيرة ومرتجلة يظن أصحابها بأنهم وحدهم يحملون مصباح ديوجين. الفيلسوف الذي كان يفتش عن الحقيقة في وضح النهار. يقول ساباتو: «تكتب الأكثرية للشهرة والمال أو للمتعة، ويبقى قلائل هم أولئك الذين يحسون بتلك الحاجة المكدرة واللحوحة إلى إعطاء شهادة عن دراماهم وشقائهم ووحدتهم»، ويضيف مؤكداً: «إنهم الشهود(الشهداء) معذبو العصر الذين يكتبون بسهولة بل تحدياً للذات، ويسبحون ضد التيار»، ثم لا يتردد في القول بأنهم إرهابيون أو أناس خارجون على القانون. بهذا المعنى فإن صاحب «أبطال وقبور» و«النفق» يجد بأن الأوامر الغامضة للكتابة تتجاوز قيمة الشهادة إلى قوة التطهير، ووثيقة كينونة في زمان ومكان محددين.

ما يسميه الطيب تيزيني «الحطام العربي» يستدعي مقاربة مختلفة، لعلها في طور النمو والتشكّل، ذلك أن رياح التغيير التي تهبّ على الخريطة العربية، ستخلق نصها بالضرورة، وستلقي كناسة الكلام في سلة المهملات، خصوصاً تلك الكتابات العابرة التي تشبه «الهوسة» البدوية. تلك «الهوسة» التي يعتقد منشدوها بأنها التعبير الأمثل عن مواقفهم أو شهاداتهم في توثيق اللحظة العاصفة، فهؤلاء حسب توصيف علي حرب لهم  في كتابه «ثورات القوة الناعمة في العالم العربي»: «طغمة دهماوية مستلبة»، مراهناً على أفراد مستقلين لهم عقولهم. أفراد صنعت أفكارهم الثورة الرقمية في المقام الأول، وهم بذلك يستكملون دورة العرب النهضوية الثانية..