الإمبريالية من منظور سينمائي: هذه هي أمريكا
(إننا نحن الملوك نـجلس على عرش الله على الأرض)
«جيمس الأول ملك انكلترا»
منذ مدة بثت إحدى الفضائيات فيلماً سينمائياً، كان قد عرض، من زمن بعيد، في إحدى صالات العرض بدمشق، ولاقى إقبالاً ونجاحاً كبيرين للغته الفنية العالية، وأدواته السينمائية المتميزة، ومضمونة السياسي الفذ.. يطرح هذا الفيلم الذي حمل اسم «حالة حصار» (إخراج غوستا غافراس) موضوعهاً غاية في الأهمية والخطورة، وهو تدخل الولايات المتحدة الأمريكية تدخلاً مباشراً في شؤون الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. ويتناول الفيلم، من خلال هذا التدخل المباشر للولايات المتحدة، التجربة الشاقة والدامية للنضال الجماهيري المنظم في أمريكا اللاتينية (الأورغواي أنموذجاً) عبر صراع منظمة «التوباماروس» مع سلطة عميلة حاكمة، تسير وفق أجندة الإدارات الإمبريالية والشركات الاحتكارية الأمريكية الجاثمة فوق صدر البلاد وقلبها.. هذه الشركات الاحتكارية الأمريكية الكبرى والمتعددة الجنسيات وبالتنسيق الوثيق مع الإدارات الإمبريالية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي.آي.أيه، والقوى والشخصيات العملية والمرتبطة داخل البلاد المعنية... هذه الشركات وإن اتخذت لها اسماء براقة جذابة: التعمير، الإنماء، التقدم.. هدفها الأول والأخير سياسي ـ اقتصادي (وإن ادعت وادعى بعضهم غير ذلك)، وهي تتسم، فيما تتسم، بالسمات التالية:
- تمارس الابتزاز والتهديد والضغوط السياسية والاقتصادية، وترسم الخطط بل الاستراتيجيات للاستيلاء على الأسواق والتدخل المباشر وغير المباشر في أي بلد من البلدان لتأمين مصالحها وتأكيدها...
- تتصرف كقوة عظمى مهيمنة ذات سيادة مطلقة في ميدان العلاقات الدولية، وتنتج سياسة، وفق مصالحها ومشروعاتها الخاصة، تقود إلى نتائج اقتصادية وسياسية تؤثر على أمم ومجتمعات بأكملها، بل تؤدي في بعض الأحايين إلى نتائج مدمرة...
- تقيم حصارات اقتصادية وعقوبات متعددة الأشكال على البلدان «النامية» وتخضعها للمساومة (...).
- تشكل بناء على ما تقدم خطراً داهماً على استقلال هذه الدول وسيادتها...
- تقف وراء الانقلابات اليمينية في أمريكا اللاتينية وغيرها (الانقلاب الدموي الفاشي في تشيلي عام 1973) ووراء الاضطرابات والفوضى والفتن.. في هذا البلد أو ذاك (...).
والآن ما الجوهري في «حالة حصار»؟
مواطن أمريكي اختصاصي في المواصلات وخبير فيها، يدعى «فيليب مايك سانتوري» (يقوم بدور هذه الشخصية الممثل الشهير إيف مونتان)، يأتي من بعض بلدان أمريكا اللاتينية إلى «الأورغواي» عن طريقة شركة الإنماء الدولية للتعمير والتقدم كموظف عادي في هذه الشركة الإنمائية.. هذا ما نعرفه عن المواطن الأمريكي «سانتوري» في بداية الفيلم، وخطوة خطوة يتبين لنا أن هذا الذي يدعى «سانتوري» الخبير في المواصلات والموظف العادي، هو على وجه الدقة خبير في الانقلابات العسكرية، وخبير في اساليب الاغتيال السياسي، وخبير في التجسس والمفجرات والقمع والتعذيب بمختلف اشكاله وأنواعه وأدواته التقنية الحدية، وخبير في إعداد أطقم الطغاة والجلادين والقتلة والإشراف عليها.. وإلى جانب ما تقدم جميعاً هون أي «سانتوري» معلم بارع لإيجاري ولا يضاهي في تعليم خيانة الشعب والوطن (..؟).
وهكذا تكتشف أن هذه الوظيفة العلنية للموان الأمريكي «سانتوري» ما هي إلا عطاء لتمرير أجندة سياسية إمبريالية أمريكية، هي أخطر بكثير من التدخل والغزو العسكري المباشر، في بلدان أمريكا اللاتينية، وفي دول «العالم الثالث» عموماً.
وهكذا، مرة أخرى، يتبين لنا بجلاء ووضوح أن «سانتوري» ولجنة الإنماء الدولية للتعمير والتقدم وبالتنسيق الكامل مع الإدارات الإمبريالية واستخباراتها، هؤلاء جميعاً هم الذين يقودون فعلياً تلك البلدان المعنية ويوجهون دقتها، إذ نراهم على أرض الواقع دولة فعالة ضمن دولة واهية، مضللة ومخادعة.. يمارسون سلطة حقيقية قاهرة داخل سلطة شكلية غاية في الخضوع والتهافت..!
والسؤال: هل «حالة حصار» هو مجرد فيلم سياسي رفيع المستوى قدم، عبر لغة سينمائية متميزة وفنية عالية، قراءة موضوعية لما تقوم به الإمبريالية الأمريكية وشركاتها واستخباراتها في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، ودول «العالم الثالث» عموماً في حقبة زمنية معينة ومحددة، وانتهى الأمر وانقضى؟ هل غيرت الإمبريالية جلدها وطبيعتها وأهدافها وسلوكها وسياساتها... وهل اختلف يومها عن أمسها؟
إن استقراء ما يجري في بعض البلدان وفي الوطن العربي وفي العالم ككل (فلسطين، العراق، لبنان، سوريةـ، إيران، كوبا، فنزويلا، بوليفيا، أفغانستان...)، يقول بما لا يقبل الشك والمكابرة أن قراءة «حالة حصار» لا يمكن أن تفهم على أنها قراءة لحقبة زمنية محددة انتهت وانقضت، فأمريكا لم تتغير، ولم يختلف يومها عن أمسها.. بل وصلت في الآونة الأخيرة إلى محطة تاريخية غاشمة وسادرة في غيتها حين أعلنت أنها هي الحقيقة الوحيدة في العالم، وحين دعت إلى تصفية «الآخر» الذي لا يسير في ركابها، منطلقة من معادلة متطرفة وجحيمية هي:
أنت معي... إذاً أنت ديمقراطي وخير (...)؟
أنت ضدي... إذاً أنت إرهابي وشرير (...)؟
لكننا في المقابل وفي السياق التاريخي «لحالة حصار» نرى تململ شعوب أمريكا اللاتينية، واتساع دائرة دولها المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي.. حيث نلحظ تلك الحملات المتنامية ضد الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات، وضد سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات أمريكا اللاتينية، وحيث نلحظ، كذلك تنامي التيار الوطني التقدمي واليساري الذي يعمل بجدية واقتدار لأجل حياة أفضل للشعب، ومستقبل كريم للوطن، وما وصول (موراليس) إلى رئاسة بوليفيا إلا دليل ساطع على ما تقدم، وبعد.. هل نستطيع أن نقول: إن الإمبريالية الأمريكية، والغربية عموماً وشركاتها الاحتكارية العملاقة والمتعددة الجنسيات، واستخباراتها المنتشرة في كل مكان هم بلا أدنى ريب أعداء للسلام والأمن والاستقرار والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.. وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها...؟