ما الموسيقا.. في إطار النشاط الفني الإنساني؟
سؤال:
وهل توجد الموسيقا في غير إطار النشاط الفني الإنساني؟
نعم. ولطالما سمينا زقزقة العصافير وقرقرة المياه وحفيف الشجر وصرير الرياح وجلجلة العاصفة موسيقا. إذن، هي هنا «موسيقا الطبيعة».
ما الموسيقا:
هي اجتماع مادتين: الصوت والزمن، بمعنى أصوات في إطار الزمن. وتكون الموسيقا إما طبيعية، تتضمن أصواتاً كالطنين والصفير والصدى وتتضمن أيضاً إيقاعات طبيعية كنبض الدم وهدير الموج وخبب الخيل. أو تكون الموسيقا «صناعية». الموسيقا الصناعية نشاط فني بشري يأخذ الصوت في حالته الخاصة التي تسمى «النغم» ويأخذ الزمن في حالته المتميزة المسماة «بالإيقاع»: المتشكل من تجمع معين لأجزاء زمنية قابل للقياس في وحدات وقت مقيدةٍ كانت أم مرسلة.
تعريف الموسيقا:
بذلك فإن كلمة «موسيقا» اصطلاحٌ شامل نستخدمه مجازياً من جهة، فنقصد به إما أصواتاً بعينها نجدها في بيئتنا ـ وتعيش ممتدة عبر الزمن ـ، أو نصف من خلال كلمة «موسيقا» صوتاً بشرياً مثلاً، رخيم النبرة، أو وقعاً شعرياً عذباً، أو حتى ألواناً بصرية منسجمة.
الجهة الأخرى:
ومن جهة أخرى نعني بكلمة الموسيقا أعمالاً موسيقية تلتحم فيها الأنغام والإيقاعات حسب قواعد استخلصها الإنسان من تجاربه الطويلة في صناعة «فن» الموسيقا. ومثلما اخترع الإنسان الكلام وصنع الأبجدية معبراً عن نفسه بلغة محكية (مسموعة) ومكتوبة (مقروءة)، عبّر الإنسان عن نفسه كذلك عبر فن الموسيقا بالنغم وبالإيقاع وصنع لنفسه «تدويناً موسيقياً» مكتوباً (نوتة موسيقية) للغةٍ موسيقية مسموعة. وينقل هذا التدوين المعلومة الموسيقية، إذ نستطيع استعادة الأنغام والإيقاعات بأن نؤديها (نغنيها ونعزفها) كما أراد لها مؤلفها أن تكون.
اختلاط التعاريف:
نضيع في أكثر الأحيان ما بين التعاريف المختلفة من «حضارة» و«ثقافة» و«فن». وسنحاول هنا أن نبسط المراحل ونستخلص «السهل الممتنع» فيما يتعلق بتراتبية تلك التعاريف منطلقين من «العام» لنصل إلى «الخاص» ولنمر عبر «البسيط» لننتهي إلى «المركب». وهذا كلّه يروي أولاً وأخيراً قصة البشر الذين يوهَبون حياةً محدودة الأمد على وجه الأرض، فيحاولون عيشها ضمن مفاهيم بشرية تتعلق بالرفاه وبالجمال، وتتسم بالإصرار على ترك الأثر الصالح.
الحضارة:
«الحضارة» مفهوم شامل يضم بين جنباته حصيلة مكونات ثلاثة:
1) حضارة خارجية /مادية: وهي « » من معرفة ومنشآت وخدمات تهدف إلى الرفاه الفيزيائي للبشر.
2) حضارة داخلية /معنوية: وهي «الثقافة» التي توجّه الذات البشرية إلى سلوك أكثر إنسانية.
3) حضارة مستقبلية /تصورية: وهي «موقف» يعكس وعي الإنسان للماضي وللحاضر ويحدد مفهوم هذا الإنسان عن السبل والوسائل الضرورية للاقتراب من واقع ومن مستقبل أقرب إلى الكمال.
ومن نافل القول أن هذه المكونات الثلاثة، كما هي الحال غالباً، تتداخل فيما بينها، ويتأثر بعضها بالبعض بالآخر.
الثقافة:
الثقافة «حضارة داخلية /معنوية» وهي حالة خاصة من حالات المعرفة. هنا يكون الهدف متمثلاً في بلوغ سلوك إنساني مرتبط بالمثل العليا للحياة البشرية، إذا لم يفتأ الإنسان يحاول استخلاص القيم والمثل عبر آلاف السنين من الحضارة المدونة التي نستطيع اليوم دراستها. وعبر تلك الآلاف التي تركت آثاراً ثقافية تحكي عن عادات وتقاليد الشعوب يحتل الفن أعلى درجات الثقافة. فما هو الفن، وما هو فن الموسيقا الذي يشكل بدوره حالة فنية بذاتها ويستعمل لغة فنية (سمعية) بعينها؟
الفن:
«الفن» هو إبداع (خلق) بشري يبرز في أعمال صنعها الإنسان منذ أقدم العصور، وأخذ موادها المختلفة من حياة البشر: فاستخدم الكلام والحجر واللون والجلد والوتر لصنع «شواهد» لغوية ونحتية وتصويرية وموسيقية (استعملت النغم والإيقاع وسخّرت الموسيقى لاستخدام الجسد في الرقص). وجُعلت لهذه الصناعة قواعد وأصولاً ما انفكت تتطور وتنصقل لتصل إلى مرتبة عالية في القدرة على التعبير. هذه الشواهد تحمل «معلومة» إنسانية حياتية تخدم البشر من جيل معين وتجعلهم يتواصلون فيما بينهم. وإذا ما وصلت هذه المعلومة إلى مستوى فني عال فإنها عندئذ تستمر في الوجود لتخدم وتُسعد أجيالاً قادمة، وتحقق التواصل بين الماضي والحاضر عبر قرون أحياناً وعبر آلاف السنين أحياناً أخرى. وبذلك أيضاً يتحقق بشكل أو بأخر «حلم الإنسان بالبقاء، بعدم الفناء، بالخلود». أما بقاء تلك الأعمال الفنية فأساسه وجود قيمة لها إيجابية، «تنفع» الإنسان تلو الآخر وتقدم «المعلومة» التي تُغني علمه وتوسّع أفقه وتثري عالمه الداخلي، وهنا يصبح أساسها الأول «الجمال الفني» فما هو دور «الجمال» محور الفن ومركزه؟
الجمال:
يعطينا الجمال الفني الشعور بالراحة بعد التعب، وبالمصالحة مع أنفسنا بعد النزاع، وبالسكينة بعد التوتر، وبالاستقرار بعد التشتت. يأخذنا «الجمال» إلى حياة أخرى، حياة فنية، تبقى فيها الأفكار والمشاعر والأحاسيس مستثارة لتقوم بما يشبه عملية «التطهير»، تطهير للروح والنفس من خلال التجربة الإنسانية المركزة التي هي العمل الفني ذاته. إذاً، العمل الفني الموسيقي هو تجربة إنسانية مركزة توضع في شكل (قالب) موسيقي (مثلاً: أغنية، قصيدة، أهزوجة، موال، تقسيم، سماعي، افتتاحية، سينفونية). ويتناسب مقدار جماله طرداً مع قوة التعبير وصدقه ومع عمق النقل للتجربة المذكورة، المواكبة للتنويعات والاختلافات في حياتنا ذاتها، المتنقلة ما بين الواقعي والمجرد، والمخصص والمعمم، والهزلي والجدي، ما بين البسيط المركب.
ختام:
إن العملية الفنية الإبداعية (موسيقية كانت أم غير موسيقية) هي إنتاج إنساني مستمر ما استمرت الحياة، لأنها تتمكن من نقل المعلومة والتجربة البشريتين فنياً من إنسان إلى آخر ومن جيل إلى آخر في محاولة لحفظها، وذلك لتتمكن من الوجود حتى بعد غياب مبدعها، حينما تنتهي فترة إقامته على وجه الخليقة. نقول فنياً لأن «صياغة» تلك المعلومة وتلك التجربة تخضع لمعايير فنية احترافية (قواعد وأصول: صناعة) ولمعايير جمالية تربط المتعة بالفكر، والبساطة بالعمق، وتربط الحس الفردي بالحس الجمعي.