الاحتراب في ساحات «مع» أو «ضد»؟
القاعدة التي يحاول ترويجها اليوم معظم من يعدّون أنفسهم أرباباً في الحدث الجاري في البلاد، أو صنّاعاً له، أو مؤثّرين فيه، ويحاولون فرضها على الجميع، تسفر عن نفسها على شكل سؤال يُطرح بصورة تعسفّية، ملخّصه المكثّف هو: «مع أو ضد؟»، وبناء على الجواب، الذي يجب ألا يتعدى «مع» أو «ضد» في جميع الأحوال، تُطلق صيحات المدائح أو الاستهجان إذا كان من يقوم بالاستفسار أو التخيير حليماً و«ديمقراطياً»، أو تُرمى الشتائم والتهم التي تصل حد التخوين وتتجاوزها إلى الإيذاء المعنوي والجسدي، أو توكَل المهام القسرية التي لا نقاش فيها ولا جدال، إذا كان السائل أقل حلماً وأكثر «انفعالاً» وأوفر استعداداً لاستقبال مصطفّ جديد..
والغريب أن القاعدة السائدة هذه، يعمل وفقها كل من يعد نفسه نصيراً مخلصاً للنظام، وبالتالي للبلاد وشعبها ووحدتها و«رموزها»، وكل من يعدّ نفسه نصيراً لـ«المعارضة»، وبالتالي للبلاد وشعبها ووحدتها و«رموزها»!! وهنا ما للخاضع للسؤال من مهرب يجنّبه شر السائل المتربّص به، فإذا تلكّأ أو صمت، عُدّ جباناً، وإذا حاول توضيح رأيه خارج هذه الثنائية المباشرة القمعية عُدّ مراوغاً متقلّباً وانتهازياً!.
الواقفون في صف النظام، المتحمسون له بقضه وقضيضه، وعجره وبجره، وشرفائه وخبثائه، المتعامون قصداً أو جهلاً عن أخطاء خطّائيه وفساد فاسديه وتسلط المتسلطين باسمه، يحملون على من لا يعلن الولاء المطلق له ولهم، وقد يكتبون بحقه التقارير ذات النتائج الوخيمة، ويخربون بيته وبيت أهله، وربما - إذا كان الظرف مناسباً - ينصّبون أنفسهم قضاة ميدانيين عليه أو مسؤولين فخريين أصحاب صلاحيات، فلا يكتفون بإطلاق الأحكام، بل يشرعون في تنفيذها فوراً بالأشكال والأدوات والأساليب والمستويات التي يرونها أو التي يعتقدون أنها الأمثل في ظروف كهذه.. وهي معروفة ولا أحد يود تذكّرها حتماً!!.
أما المصطفون في نسق ما يسمى «المعارضة»، السائرون في ركابها أو بالأحرى في طليعة أرتالها، بغير بصيرة أو أسئلة بسيطة، فلا يختلفون بمعظمهم كثيراً من حيث الجوهر عن «نقيضهم» الشكلي، لا بمستوى العماء، ولا بالذهنية، ولا بردود الفعل، ولو امتلكوا هوامش وإمكانات الموالين (وبعضهم امتلكها حقاً ولم يختلف عن الآخر بشيء) لما أحجموا عن القيام بكل ما سيلقي أقنعة «التمدن» و«الديمقراطية» جانباً، ويسفر عن المتواري العظيم تحت الأردية العصرية المخادعة..
بين هذا وذاك، تكثر المزاودات في اللقاءات العابرة، وفي الشوارع، وفي المقاهي، وخاصة «الأدبية» منها، وعلى شاشات التلفاز، ويصبح من لم يُعرَف عنه أنه «أضاع» دقيقة واحدة من وقته على شأن عام فجأة غيفارا عصره وأوانه، أو جندياً في خط المواجهة الأول.. ويأتي الإعلام بشقيه، الموالي والمعارض، الأول بمحدويته وغبائه وانعدام ثقة معظم الناس به، والثاني بضجيجه وصراخه وخبثه واحتمائه بالبلاد التي يبث منها، ليزيد الطين بلة، ويعمّق الشرخ بين الحقيقة واللاحقيقة، وبين الناس فيما بينهم، انطلاقاً من اعتبارات فئوية على الغالب، أو وهمية مليئة بالثنائيات القسرية، وكأن جميع المتقاتلين ظاهرياً يريدون جدياً فرز الناس إلى خندقين كاذبين في جوهرهما حتى الآن: «مع أو ضد؟»!!
الحقيقة التي يجب أن تقال اليوم بشكل ساطع وواضح أن كلا المتقاتلين المتواريين خلف تنازع أو تناحر من هم بالأسفل، لم يقاربا جوهر مطالب الناس التي لم تستطع شعارات الشوارع التعبير عنها.. أيّاً منهما لم يقل كلمة عن تقسيم الثروة بين الناهبين والمنهوبين، ولم يقدم برنامجاً فيه إشارات، ولو خجولة، عن العمل والصحة والتعليم والضمانات والحقوق المادية للناس، فأحدهما يسرف بالحديث عن قضية الديمقراطية، والآخر عن القضية الوطنية، وكأن القضايا الثلاث، الاقتصادية – الاجتماعية والديمقراطية والوطنية لا رابط عضوياً يجمع بينها!
ستبقى مقولة «مع أو ضد؟» عمياء وحمقاء إذا لم تُربط هذه الثلاثية بعضها ببعض.. وسيبقى المتقاتلون يتقاتلون على وهم وسراب، لن يدفع ثمنهما دماً وفقراً وضياعاً وتمزقاً إلا الشعب السوري..
أبعد هذا، هل يستغرب أحد لماذا ما تزال أكثرية الشعب «صامتة» بالنسبة لمن يرون أنفسهم صارخين؟
الآن هو الوقت الحاسم للقوى الوطنية الحقيقية لتقول كلمتها وترفع شعاراتها.. الآن هو وقت المثقفين الوطنيين للمساهمة في تصويب الفرز ليتم على أسس حقيقية وليست وهمية.. الآن هو وقت التغيير الحقيقي..