لا يترمد هذا الجمر
غياث رمزي الجرف غياث رمزي الجرف

لا يترمد هذا الجمر

الثقافة ليست أماناً واطمئناناً، وليست دعة وهدوءاً، وإنما هي العيش في خطر، وهي قلق وتوثب دائم... والكتاب العظيم والفن العظيم يكدران صفو حياتك، ويقضيان على استقرارك، ويجلبان لك القلق والانشغال...

هذه الكلمات للمفكر الدكتور (فؤاد زكريا) الذي لم «ينصف» ولم «يدرس» والذي لم يتم «تناول» كتاباته وأفكاره ودراساته ومساهماته الفلسفية والفكرية والثقافية عموماً التناول الجدير بها، والذي تستحقه عمقياً وأفقياً.. ولعل السبب الأكبر في ذلك يعود إلى هشاشة الحركة النقدية الفكرية العربية المعاصرة، خاصة في السنوات الأخيرة، وإلى الغياب النسبي للحوار النقدي المثقف، العلمي والموضوعي...

نقول: إن هذه الكلمات المفصلية للمفكر (فؤاد زكريا) تصح تماماً على حياة (ممدوح عدوان) وفضائه وثقافته وأعماله وإبداعاته الشعرية والمسرحية والروائية والنقدية، وعلى ترجماته ونصوصه التلفزيونية، وعلى مقالاته وكتاباته الصحفية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية، أم أدبية.. فالثقافة لدى ممدوح عدوان لم تكن في يوم من الأيام هواية.. ولم تكن في أي وقت من الأوقات شيئاً عابراً.. بل كانت ـ أي الثقافة ـ شغله الشاغل، وهاجسه الحقيقي، وهمه الأكبر، وقلقه الأعظم.. وممدوح عدوان رفض الأوهام والسكوت، ولم يقدر عليهما يوماً.. كما رفض الحياة «المسالمة» الآمنة، المطمئنة، المستقرة، المستكينة، الخانعة والخاضعة.. وكان يفكر أكثر مما ينبغي، ولم يكن يملك هدوءاً بالمعنى الشكسبيري، من «المخاض» و«ليل العبيد» إلى «دفاعاً عن الجنون» و«حيونة الإنسان» و«جنون من نوع آخر»، وصولاً إلى «حياة متناثرة».

لقد وقف ممدوح عدوان باقتدار وثبات ضد انحدار الإنسان إلى هاوية الحيوان، ودافع عن إنسانية هذا الإنسان الذي يراد له أن يتحول إلى كائن متبلد حسياً بلا روح، وبلا مشاعر وأحاسيس، وبلا عواطف وكيان إنساني.. ووقف ضد الاستكانة والفقر والقمع ومصادرة الحريات والظلم والفساد والاستبداد والتسلط وشريعة الغاب والخوف الذي استطاع بجسارة ورجولة أن يكسره ويخترقه في مجمل أعماله وكتاباته وإبداعاته...

كما وقف ضد المشروعات الأمريكية ـ الصهيونية، وضد العولمة المتوحشة، وحركة أمركة العالم، أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي خلق فهماً جديداً ينظر إلى الشعوب على أنها لا تعني شيئاً... وعليها أن تكون مستسلمة، خاضعة لا تسأل ولا تتساءل ولا تتمرد، بل لا تدافع حتى عن نفسها ووجودها وحقها في الحياة... تفكر بعقلية «إنو اللي بيجي منيح» ولا تعرف أن تطالب لا بالخبز ولا بالكرامة ولا بأي شيء «واللي بيجيها منيح» على حد تعبير ممدوح عدوان نفسه في أحد حواراته، وحمل (عدوان) فيما حمل، جراحات الأمة، وحمل هموم الناس وقضاياهم وآلامهم وآمالهم وأحلامهم الممنوعة من الصرف بالحياة الحرة الكريمة.. كما حمل أوجاع الوطن وانكساراته وهزائمه ولاسيما هزيمة الخامس من حزيران التي زلزلت كيانه، وهزت العميق منه، والتي أثرت به تأثيراً بليغاً لم يستطع الزمن محوه..؟!

وإلى ذلك جميعاً فقد كان ممدوح عدوان عميق المعرفة، يساري الرؤى، إنساني النظرة، محباً، حاراً، عفوياً، حيوياً، صريحاً، صاخباً، مشاكساً، ساخراً، متهكماً، وكان عبر عزيمة لا تلين، منافراً، مصادماً، معانداً، مكابداً، تحريضياً، «مشاغباً» و«متمرداً» و«مجنوناً» وسجالياً، يخوض «معاركه» الأدبية وغير الأدبية بصلابة وشجاعة وجرأة وفروسية..

في مسرحيته «هاملت يستيقظ متأخراً» المقتبسة أو المستندة إلى مسرحية «هاملت» الشهيرة لشكسبير، يعرض ممدوح عدوان، فيما يعرض، بعد أن يقوم بتأصيل عمله بيئياً ومحلياً، يعرض أزمة مثقف محدود القدرة والحركة والفاعلية والتأثير.. في زمن خطر يستدعي الانتماء العميق، والحراك الفعال، واليقظة العالية، و«الأسلحة» المتنامية، والقراءة النقدية المثقفة الواعية.. لواقع عربي متردٍ، مشكلاته متراكمة مفتوحة ومتزايدة بشكل دائم ومستمر.. والمثقف في قلب هذا الواقع وعلى جنباته يكاد يجد نفسه عاجزاً تماماً عن «التصدي» لهذه المشكلات، ومن ثم عاجزاً عن «إصلاح» هذا الواقع بمفرداته المختلفة، كما يجد نفسه عاجزاً عن «إصلاح» حياتنا العربية المتهالكة والقلقة... ومجتمعاتنا المضطربة على أكثر من صعيد.. إن المشكلة الكبرى لدى هذا «المثقف» أنه على الغالب «يستيقظ متأخراً» (..؟).

ولعل من «الطرافة» ذات الدلالة الخاصة أن نشير، ها هنا، إلى أن «هاملت يستيقظ متأخراً» حين عرضت في صالة الحمراء بدمشق لاقت رفضاً وشجباً واستنكاراً.. من بعض «اليساريين الكبار والصغار» (..؟) فقد كان هذا «البعض» يعنف و«يتهم» كل من يحضر عروضها، و«يجرم» كل من يبدي رأياً إيجابياً بهذا العمل المسرحي (...)؟! وهذا الرفض والشجب والاستنكار والاتهام.. يعود ـ فقط ـ إلى أن المؤلف «استيقظ مبكراً».. وإلى أن أفكاره وآراءه، التي أثبت الزمن صحتها، لم ترق أو لم تتناغم مع بعض «اليساريين» (..؟).

وبعد.. إذا كان هذا قد جرى على الضفة «اليسارية» ترى ما الذي يمكن أن يقال عن الضفة الأخرى، ضفة الفكر الرجعي الظلامي..؟!

في نهاية هذه المقاربة، وروحي قد تضرجت بالندى وبالحزن الإنساني النبيل.. لي عتب على الأرض وعلى «السماء»، عتب ممزوج بصرخات «جلجامش» المدوية الموجعة، وهو يحمل بين يديه «انكيدو» الذي قضى نحبه.. لأنهما (الأرض والسماء) اختطفتا جسد ممدوح عدوان وقلمه قبل الأوان، وقبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود...