على باب القيامة
ما يحدث الآن تعبير واضح وصريح على أن الأرض لم تعد تستطيع إخفاء ما تعانيه، لأنها بعبارة واحدة: بلغت حدّ الانفجار!
ما يمكن أن يقال عن أيّ كائنٍ حيٍّ يمكن أن يقال عن الأرض، ليس لأنها مجموع الأحياء عليها، ولا لكونها مسرح الحياة والأحياء، بل لأنها، وهذا ما نتغافل عنه، كائنٌ حيٌّ يحسُّ ويشعر، دون أن يفكّر أحد منا أن يعرف ماذا تحسّ.. وماذا تشعر..
الأرض-كوكبنا الصغير قياساً بإخوته الكواكب والعملاق قياساً بقزمتنا- مريضةٌ تتلوى وتئن.. الحرارة والثلوج اللذان تبادلا الأمكنة.. الفيضانات المجنونة، الجفاف، الهزات الأرضية.. إلخ، ما هي إلا تعبير عن متلازمة اختلال عضويّ في جسد الكرة الأرضية العليل!!
لا يحدث شيء في ناموس العالم إلا بمقدار، وما يجري هو إعلان اضطراب الناموس. شيء من قبيل الغضب والجنون.. وما سينتج عنه لن يكتفي بسحق البشرية وحسب، بل سيحقق نبوءات القيامة. فالحقائق الواضحة الآن بالأرقام والموازين تضارع المثيولوجيا، وهذا ما يجعلنا نوقن أنّ تكهنات العلماء ليست سوى مَنْطَقَةٍ (من المنطق) للخرافة..
لا نعرف من سيسبق من: ذوبان ثلوج المحيط المتجمد أم هبوب العواصف الشمسية؟؟ ما نعرفه أن الجوّ بات مواتياً لكتابة الأسطورة كرسالة لأهل المستقبل، هذا إن كان هناك مستقبل. وسوف يأخذ كاتب الأسطورة الجديد خلافاً لكاتبها القديم إيضاحات أجلى مما في «أساطير الأولين»، فإذا كان شاعر الأسطورة يرثي أرضاً نكبتها لعنات الآلهة فإنه، في النسخة المحدثة من الشخص والطبعة الجديدة من النص، سوف يرثي أرضاً دمرها أبناؤها وخرّبتها حروبهم الحمقاء المتتالية، هكذا ستكون مرثية العالم أكثر صراحةً في الإدانة والتشهير والتعريض.
سياسات النهب الإمبريالية هي المدان الأول والأخير، فهي صانعة الخراب عبر حروبها التي تكاد لا تنتهي.. وهي دراكولا الاقتصاد، مصّاص دماء الشعوب، الذي لا يرتوي بغير الفقر.. وفوق هذا وذاك لم تراع حرمة المناخ ولا البيئة فألقت بنفاياتها السامة في الماء والصحراء والهواء.. وحين اعتل الجسد وسقِم جاءت هذه القوى اللئيمة تبحث في دول العالم الثالث عن شريك في الجريمة، فكان مؤتمر المناخ العالمي في كوبنهاغن العام الفائت نوعاً من المحاولة في تمرير هذا المشروع، لكنّ قوى العولمة البديلة والشرفاء وقفوا ليقولوا لمجمع الشياطين: لا.. ما من صناعات ثقيلة لدينا، لا مفاعلات نووية، لم ننشب حروباً..
في واقعة مؤتمر كوبنهاغن طولبت الرأسمالية بتنظيف الجو والتعويض عن الأضرار التي تسببت فيها، ومن ينسى صرخة شافيز، الفنزويلي هوغو شافيز، بالمؤتمرين: «لو كان المناخ بنكاً لأنقذتموه»..
قديماً كان الغجريّ يغني: «العالم بيتي».. وتحت طائلة هذا الانتماء إلى الأرض كاملةً كان يملأ أرجاءها بالرقص والغناء محبّةً. الهندي الأحمر حين خطب بالغازي قال: «نحن جزء من هذه الأرض وهي جزء منا. الأزهار العطرة إخوتنا. الدببة والغزلان والنسور إخواننا. كل خيال في مياه البحيرات الصافية تخبر ذكريات في تاريخ شعبي. رقرقة المياه هي صوت أجدادي. الأنهار إخوتنا الذين يحملون زوارقنا ويطعمون أولادنا». أما الآن فمواطنو عصر العولمة يصرخون: «اللهم نفسي.. ومن بعدي الطوفان..»، لأنهم تربوا على أن فكرة الحياة تعني واحداً فقط، ولا مكان لآخر يشارك، ومن هذه الفكرة قطعوا صلة الإخوّة مع الإنسان والحيوان والنبات، وارتضوا الحياة مُعلّبةً مع المواد الحافظة في «كهف» الحداثة الزائف، كما تقول إحدى روايات ساراماغو، حيث يتم تصنيع صور للغابات ونسيان الغابات، واستعارة لأشكال الأنهار مع إهمال تام للأنهار نفسها، وهكذا دواليك..
نحن على الباب الأخير، وثمة من يُعِدُّ المرثاة للبشر الذين لم يكتفوا بالجناية على أنفسهم وحسب، وكان يمكن الغفران لو اكتفوا بذلك، إلا أن نزعتهم التدميرية قادتهم إلى الإتيان على كل شيء.. كل شيء حيّ.. مع أنّ عناصر الحياة لم تكن عدوة ليطبّقوا عليها أمثولة الثأر: عليّ وعلى أعدائي..