في واحة محمد مستجاب
حسام زيدان حسام زيدان

في واحة محمد مستجاب

لا يخفى علينا أن كتابات محمد مستجاب هي خليط بين السيرة الذاتية والسيرة الشعبية والقصة والشعر والمقامة والنقد والكوميديا والتراجيديا والجنون والحكمة، وكل هذا ممتزج بالأسطورة يستلهمها ويعيد صياغتها، و ينقل بها حقائق وجذور ومستقبل وضعه القبلي ووضع المجتمع، و يتواطأ مع قرائه في الكشف عن آلية إنتاجها الأولى، فهكذا هو مستجاب ذو الجسد-الممتد على مساحة تصل إلى سبعة آلاف عام  لقد تركت الأحقاب الماضية أثار نهش واضحة في الجلد والعضلات والدماغ والبلعوم والأمعاء والساقين والعيون أيضا  نبال وسهام وعجلات حربية وسنابك وحدوات وسيوف ودانات ورصاص وقنابل ولدغات عقارب وثعابين وصياغات متعددة ومتناقضة ومتحاربة لمعتقدات وديانات وقوانين وشرائع وفرمانات ودساتير وأوامر ولغات ولهجات وحكايات وتعاليم.

هو إذاً مستجاب الذي قال عنه (د. شكري محمد عياد) تحت عنوان «القفز على الأشواك.. كوميديا الأسطورة» في «الهلال أكتوبر عام 1994»: «إنه يذهب إلى أعمق من الخرافة أو الحكاية الشعبية، إنه يذهب إلى جذر الأسطورة نفسها، لكنه يذهب إليها بوعي إنسان حديث، فيحولها إلى كوميديا، وجذر الأسطورة أسبق من أي أدب مكتوب... هو التفسير القصصي لشعائر دينية تقوم بها الجماعة البدائية لجلب منفعة أو دفع ضرر».

هو ذلك المستجاب الذي ظل مهموماً بالقرية الصعيدية البعيدة، خاصة قريته «ديروط الشريف»، والتي تأتي منها جماليات أعماله التي تكسر كل ما هو مألوف في عالم القصة، خاصة عندما يلج بالقارئ إلى عوالم مختلفة ويتخذ من السخرية أداة لبناء عالمه الأدبي بحيث يهدم كل التوقعات لدى القارئ. وصف البعض كتاباته بأنها قريبة الشبه بأعمال غابرييل غارسيا ماركيز بواقعيته السحرية نظراً لأنها تستخدم الأسطورة والفلكور، وتفجّر العلاقات اللغوية ذات الحس الشعبي، أو خورخي لويس بورخيس وخاصة من جهة استخدام الأسطورة الشعبية _ عندما بدأ مستجاب في نشر أولى قصصه عام 1969 لم نكن نعرف شيئاً عن الواقعية السحرية _ ورغم أن كثيراً من الكتاب المصريين والعرب قد يعتبرون ذلك القول إطراء رفيع المستوى، لكن رد فعل ذلك مستجاب الصعيدي البرّي يأتي مشاكساًـ كالعادة ويُعلن في كل مكان يتردد فيه ذلك الإطراء بقوله «ماركيز مين؟ أنا لم أقرأ لذلك الرجل، وبيني وبينه سد منيع، وأشعر تجاه كتاباته بعدائية غريبة»، فمحمد مستجاب، كاتب ذو خصوصية فريدة في أدبنا العربي الحديث. ونجد أعمال مستجاب تدور حول أصحاب المواويل والمغنين الشعبيين وعن أساطيرهم وخرافاتهم الشعبية مثل حكايات «أبو زيد الهلالي»، وشعرهم الشعبي وتولي اهتماماً خاصاً بطقوس أولئك البسطاء وعاداتهم وتقاليدهم وحتى تضاريس بلادهم البعيدة عما نقرأه في الكتب. يكتب منهم ليس بالضرورة منحازاً لجميع منجزاتهم. هو مستجاب الذي قال عنه د. غالي شكري تحت عنوان «الأسطورة المستجابية»: «كان المفهوم العام للرمز أنه مجرد حيلة للتخفي عن السلطة القائمة إلى أن أصبح الرمز تعبيراً واضحاً عن المجهول والغامض.. ومستجاب لا علاقة له بهذه المفاهيم للرموز فهو يستبطن رداء الرمز ليحصل على الواقع وليس العكس، فإذا تجمعت لديه مجموعة من الرموز رأى الواقعة التي خلفها على نحو مختلف عن النحو الذي اعتادته البصائر. ومن هنا تصبح الدهشة والمفاجأة والخوارق ذات معنى يخص مستجاب وحده ولا علاقة له بالمعاني الدارجة في المعاجم والحياة للرمز والأسطورة. فالرجل لا يتخفى عن أي سلطة مهما كانت في رداء يهمس ولا يصرخ ولا يقف وراء الإيقاعات الغامضة والطقوس السحرية والطلاسم المجهولة ليهرب من شراسة الواقع وبشاعة السلطات القائمة فيه، ذلك أنه لا يجيد الهرب بل المواجهة كطريق وحيد للمقاومة. إنه يتخذ مكانه المعارض لكل سلطة، أي أنه يقاوم مبدأ السلطة ذاته، هكذا يصل من الجزئيات والتخصيص إلى الأصل والتعميم.. وهكذا يلتقط مستجاب الواقع من أحشاء الأسطورة و الواقعية من قلب الرمز».

وهناك من يقرر أن أدب محمد مستجاب داخل بقوة وعمق ضمن تيار الواقعية السحرية لا من خلال مفهومها العجائبي فقط، وهذا ما يتصوره كثير من الكتاب أي عالم الجن والعفاريت و«ألف ليلة وليلة» وما إلى ذلك، وإنما من خلال مفهومها المعاصر القائم على ثلاثة ارتباطات هي: 1- العجائبي المتمثل في الأشياء المذكورة إضافة إلى «حواديت الجدات»؛     2- الأسطوري وهناك مقولة مهمة لخوري لويس بورخيس هي «إن الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه»؛ 3- والارتباط الثالث هو الجانب السيريالي.

يا «مولانا مستجاب» نحن نشهد ونتعاهد ونعاهدك، بأننا سنظل نقف حراسًا أشداء لواحتكم العربية الطاهرة الجميلة، حراسًا ضد فقر الفكر والملكية والتوجس والشر والرعب والاعتزال، سوف تظل واحتك، كما هي، كما كانت كل بلاد الله والقرى والمدن، ملكًا مشاعًا لخيالك الفسيح الرحب، بتكوينك الفاتن المتفرد أينما ظهرت..