أسطورة الكعب الأعمى
ديف زيرين، زاتش زيل ديف زيرين، زاتش زيل

أسطورة الكعب الأعمى

لا شك أن كرة القدم العالمية خسرت أحد أبطالها في الأسبوع الماضي برحيل لاعب خط الوسط البرازيلي المخضرم، وكابتن فريق البرازيل في كأس العالم، عام 1982. ولكن الإحساس بفقد قائد الميدان، الطويل النحيل ذي اللحية الكثة، حامل اسم الفيلسوف سقراط، لا تحده الأوساط الكروية، لأن «سقراط برازيلييرو سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا» كان واحداً من أولئك الرياضيين الذين يتمتعون بشخصية ثرية وسمات إنسانية غامرة تجعل مكانتهم تتجاوز خطوط تماس اللعبة.

ترجمة: موفق إسماعيل

فاهتمامات ومواهب وإنجازات سقراط كانت مذهلة. فهو طبيب وموسيقي وكاتب ومحرر زوايا صحفية وناشط سياسي وناقد تلفزيوني. وفي ركن ما وسط كل هذا، إضافة لقيادته فريقاً يمكن اعتباره أكثر الفرق فنيـّة نحو سدة مجد غير مسبوق، وجد متسعاً للوقوف بجرأةٍ متحدياً ديكتاتورية عسكرية حكمت البرازيل عقوداً من الزمن.

إلى جانب زيكو، فالكاو، سيرجينهو، إيدر، في خط وسط فريق عام 1982 البرازيلي، مزج سقراط حِـرفيته وتسجيله الأهداف المستحيلة بسحر إبداع فريد. وإذا كان لفرح لعب الأطفال أن يجتمع يوماً مع حِـدة المنافسة فلا بد أنهما اتحدا في الفريق الذي قاده سقراط إلى نهائيات كأس العالم في إسبانيا، بتجسيد لوصف إدواردو غاليانو لكرة القدم البرازيلية بأنها «اللعب الأجمل في العالم، المجبول من خدع خصر وتلوّيات جذع وساقين منطلقتين، مستوحاة من رقصة محاربي العبيد السود «كابويرا»، ومن نشوة رقصات الأحياء الفقيرة في المدن الكبيرة.... تخلو كرة القدم البرازيلية من الملائكة الحقيقيين، تماماً كخلو جبال ريو من أي أحد».

قارب سقراط الرياضة باندفاعته وبالانفلات ذاته الذي صبغ  نواحي حياته. شرب ودخن ولعب بلا ضوابط. يختزل طيشَه في العيش واللعب ختمُ حضوره في الملعب بتلك التمريرة الكعـّابية المغـْفـَلة. ويمكن القول، إلى حد كبير، إن سقراط لم يـُمسِ لاعباً محترفاً إلا بعد طول تفكير، ولم يتفرغ للاحتراف بدوام كامل إلا بعد أن انضم إلى «كورينثيانز» في الرابعة والعشرين من عمره. وبعكس معظم الرياضيين المحترفين رفض التنازل عن مواقفه السياسية قبل دخوله الميدان.

وعلى النقيض من بيليه، لم يعقد سقراط يوماً صلح سلام مع الديكتاتورية البرازيلية لا سياسياً ولا مالياً. وفي الواقع، بخبرته الطبية، وشعره المنسدل ولحيته المتـَفلتة وسياساته المقاومة لم يكن يشبه بيليه إلا بنذر يسير من شبهه بتشي غيفارا، بلا مبالغة. وربما هو اللاعب الوحيد الذي نظـّم يوماً خلية اشتراكية من بين زملائه. وساهم، في ساو باولو، ببناء نادي «كورينثيانز» وفريقه على أسس سياسية راديكالية. ليغدو مع مضي الوقت نقطة علام للتعبير عن السخط الوطني الموجه ضد ديكتاتورية العسكر حاكمة البرازيل.

حكم الجيش البرازيل منذ عام 1964، بعد الإطاحة بالرئيس اليساري غولارت الذي كان وعد الشعب بإعادة توزيع الأراضي الزراعية وتأميم الصناعة. وحينما بدأت الديكتاتورية بالترنح تحت ضغط الناس والكساد في أوائل الثمانينيات، كان سقراط وزميله «ولديمر بيريز»، رئيس النادي، ينظمان ويلعبان ضمن فريق نادي «كورينثيانز» المشهور باسم «تايم دو بوفو» أو «الفريق من أجل الشعب» ترويجاً لفكرة قوة ممارسة الديموقراطية. ومن خلال تعاونهما أصبح أعضاء النادي واللاعبون يتحكمون باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بهم وبالنادي، وكما ذكر سقراط آنذاك «يتساوى جميع أعضاء النادي بحق التصويت، من النادل إلى المدير، وكل الأصوات لها الوزن والأهمية ذاتها». فما عاد أحد يقرر عوضاً عن اللاعبين أوقات وجباتهم ولا حبسهم في فنادق إقامتهم لمدة 48 ساعة قبل موعد المباراة، ولا منعهم من طباعة شعاراتهم السياسية على كنزات الفريق.

بهذا الشكل، غدا أكثر فرق أمريكا الجنوبية شعبية رمزاً للأمل، ليس للبرازيليين وحسب، بل لعموم قارةٍ أنهكها طغاةٌ تسندهم الولايات المتحدة الأمريكية. وفي طريقه لإحراز 172 هدفاً في 297 مباراة لمصلحة نادي «كورينثيانز»، غدا سقراط شخصية شعبية محبوبة وعصية لا تطالها أيدي نظام حكم العسكر.

تكمن مأساة وفاة سقراط في رحيله المبكر (57 عاماً من العمر فقط)، وكذلك في توقيت رحيله. فمع اقتراب إقامة بطولة كأس العالم ودورة الألعاب الأولمبية في البرازيل، كان سيغدو صوت النقد العالي المحتج ضد طريقة تنظيم مهرجانات الرياضة العالمية على حساب شعب البلد المضيف، ولمصلحة حفنة من «نخب» الدولة. فعندما سألته صحيفة «ذا غارديان»، أوائل هذا العام، عما يستفيده فقراء البرازيل من بطولة كأس العالم، أجاب سقراط: «سوف يختفي الكثير من أموال عموم الناس، ليظهر في جيوب قلة من الناس. وسوف تـُبنى الملاعب الآن لتبقى قائمة في مكانها دهراً دون أن يستخدمها أحد!! كل شيء يدور حول المال. يتعين علينا اليوم إدامة الضغط الشعبي من أجل تحسين البنى التحتية والنقل وشبكة تصريف مياه المجاري، رغم اعتقادي بصعوبة تحقق ذلك». أيّ جرأة سياسية في إعلان موقف ضد إقامة بطولة العالم في البرازيل؟! إنما كان سقراط صريحاً في اللقاء ولم يـَقصـُر ملاحظاته على ما يتعلق بكرة القدم بقوله «ما نحتاج تغييره هو هذا التركيز الدائم على التنمية، بينما علينا إعطاء الأولوية للكائن البشري، للإنسان. للأسف، في هذا الكوكب المعولم لم يعد الناس يفكرون بكينونة الإنسان بقدر ما يهتمون بالمال والاقتصاد و... الخ».

ما زال لدينا أمل بأن يلتقط جيل برازيلي جديد الخيط من حيث أفلته سقراط. ومع قدوم بطولة كأس العالم ودورة الألعاب الأولمبية إلى البرازيل الجديدة، نتوقع سماع صدى عزيمته يتردد في الشوارع.