تأبط نعلاً..
كان المأمون يجلس للناس يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها، ونعله في يده، فوقف على طرف البساط وقال: السلام عليكم، فردَّ المأمون السلام، »
فقال الرجل: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه، جلسته بإجماع الأمة أم بالمغالبة والقهر؟ قال: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي، فلما صار الأمر إليَّ علمت أني محتاج إلى إجماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي، ورأيت أني متى خليت الأمر اضطرب حبل الإسلام، ومرج أمرهم، وتنازعوا، وبطل الجهاد والحج، وانقطعت السبل، فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر. فقال صاحب النعل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب.
رجل من العامة يقتحم مجلس من دانت له الدنيا من مشرق الأرض لمغربها، يقف على بساط الخليفة، متأبطاً نعله، يسأله من أعطاه الحق في مجلسه هذا؟ هذا لعمري الخط الأحمر الفاصل بين الحياة والموت، والذي ينبغي ألا يتجاوزه أحد أو حتى الاقتراب منه.
تظهر هذه النادرة أن العلاقة لم تكن دوماً مشدودة شداً حاداً بين السلطان وعامة الخلق، فقد كان هناك مساحات ممتدة متنوعة بينهما تثير الانتباه والدهشة. بل لعلها تتجاوز وتخترق بصورة مباغتة الخطوط الحمراء للسلطة دون أن يترتب على ذلك أي نتائج مأساوية، وإنما يتحول الموقف برمته لنادرة طريفة تنسج خطاباً مراوغاً يضمر السخرية العميقة من صاحب السلطان على حد تعبير الدكتورة هالة فؤاد.
هنا لا بد من استنطاق هذه العلاقة الشائكة بين الرجلين. صاحب النعل ترك عمله، شمَّر ثوبه، تأبط نعله، وجاء مجلس السلطان يسأل. أيدرك هذا الرجل ما يفعل؟ أهو أحمق بالفطرة أم أنه يخلط بين الهزل والجد؟ ألا يدرك ما يمكن أن يفعله السلطان لو غضب؟ وغضب السلطان لا تحمد عُقباه. أمن حقه كفرد مؤمن أن يستنطق السلطان ويسأله كيف يدير شؤون الرعية؟ ماهي الأسباب الملحة التي أقلقته و دفعته لمواجهة السلطان بجرأة، أو تهور، ودخول حضرته هكذا دون أذن ولا دستور؟
ربما تكشف هذه الأسباب في مجملها عن احتياج الرعية الملح إلى الراعي، وهي لا تهدد جوهر السلطان، بل تدعمه، وتؤكده، وتكرس له. أنظر إلى صاحب النعل حين سمع جواب المأمون كيف سلّم وانصرف. هل سكنت نفسه واطمأنت من قلقها على مصير الأمة؟ أكان جواب المأمون شافياً كافياً، سد الذائع من كل وجه؟. وقد نُقل عن المأمون: ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة، قدَّمه أهلها فشكا عاملهم، فقلت: «كذبت، بل هو رجل عادل»، فقال: «صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا، قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا»، فقلت: «قم في غير حفظ الله، عزلته عنكم».
ولا يعنينا في هذا الساق مدى صحة الرواية ، وهل هي حقيقة أم من عمل الخيال؟ لأننا نهتم بتحليل تلك العلاقة الملتبسة بين السلطان ورعيته، ولعل ما ينسج ملامح ذلك الالتباس هو امكانية التشارك في دوافع الاقتراب من المدار السلطوي لاذع المذاق، والتورط في فضاءاته، مما يجعل الحضور داخل هذه الفضاءات مجازفة خطرة قد يترتب عليها في كثير من الأحيان نتائج وخيمة تصل إلى حد التصفية الفعلية مادياً ومعنوياً. وصدر هذا الكلام شبيه بشيء لا بأس بروايته في هذا الموضع، فقد خطب أبو جعفر المنصور يوماً فقال: «منذ أن وليت عليكم رفع الله عنكم الطاعون». فقام رجل في المجلس وقال: «لأن الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون