«تقاسيم على درب الآلام».. ميزانسين الضوء والقناع
يشكل الفنان الفلسطيني زيناتي قدسية حالة خاصة في المسرح السوري المعاصر، فمنذ وقوفه على خشبة القباني في مسرحية «حال الدنيا 1985» وتحقيقه لعدد من عروض المونودراما التي كان أبرزها «القيامة»، «الطيراوي»، «الكأس الأخيرة لسقراط»، «أبو شنار» عن أوجاع الشعب الفلسطيني، استطاع صاحب «روايات البهاء» أن يؤلف ما يشبه فريقه المسرحي، ليحقق معه اليوم مسرحية «تقاسيم على درب الآلام»، إنتاج مديرية المسارح والموسيقى، متعاونا مع كل من الفنانَين محمود خليلي ويوسف المقبل.
فعلى امتداد ساعة من الزمن افتتح «درب الآلام» تقاسيمه أمس الأول على خشبة الحمراء بدمشق، ليكون النص والإخراج بتوقيع من الزناتي، مبرما لعبة عالية بين الرقص والأقنعة، ووفق تواتر إيقاعي لافت لحكاية العرض التي تروي قصة «فريد المقدسي/ محمود خليلي» الشخصية التي يرمي من خلالها مخرج العرض الإشارة لإدوارد سعيد، وما لقيته أطروحات المفكر الأكاديمي حول القضية الفلسطينية من هجوم شرس من قبل مفكري الغرب ومنظريه، حيث يضع العرض «فريد المقدسي» الشخصية التي توفيت زوجته إبان انتفاضة الأقصى 2002 وجها لوجه مع شخصيات تظهر وتغيب على الخشبة بانقضاضات متباينة، وكمافيا سوداء تعمل على فبركة كل شيء، الاتهامات، والاغتيالات، والخطف، والمحاكمات الصورية، إذ يتضح مع تطور صراع الشخصية الرئيسة في «درب الآلام» رغبة كاتب العرض ومخرجه بإبراز فكرة الصراع الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني مع التيارات المتأسرلة حتى داخل الثقافة الفلسطينية، كون «المقدسي» في حنين دائم إلى مريم، وإلى الخلاص من كل قوى الشر والظلامية التي تنهشه مرارا؛ في الحلم أكثر منه في الواقع، فمنامات «فريد» هي المادة الأساسية لصراع مسرحي، يمضي قدما مع المختارات الموسيقية التي وضعها «قصي قدسية» كنوتة ضبطت إيقاع الحركة، وأضفت المزيد من الغرابة على سلوك الشخصيات الأخرى.
الفنان قدسية لعب دورا لافتا بأدائه لشخصية «باراباس» الهائم في ظلام كحوله ونزقه ورغبته الدفينة في فضح الأكاذيب الصهيونية، والادعاءات التي ساقتها إسرائيل لتسويغ اغتصابها للأرض الفلسطينية. من هنا تبدو مسرحية «تقاسيم» نوع من تلك العروض التي تتآلف فيه عدة فنون على الخشبة، فمجموعة الراقصين التي صمم الكوريغراف جمال تركماني حركتها، كانت بمثابة دعم بصري للصراع الدائر والمضطرم، صراع يغرق في غابة من الأقنعة والأزياء السوداء (صممها علي خليلي) كما تفصلها ممرات من إضاءة، صممها بسام حميدي، لتبدو كأنها كالوس غير مرئي لحضور الشخصيات واختفائها من على المسرح.
توليفة معقدة من الأصوات والطبول والوجوه الملثمة والأضواء قدمها قدسية، مرة بأسلوبية باتت معروفة في شغل الفنان الفلسطيني، ومرة صادمة ولافتة في تحقيق طقوسية باهظة، ربما غير مبررة كفعل على الخشبة في بعضها، لكنها محبوكة ضمن تورية الحلم، أو لنقل ميزانسين الضوء ورقص الأقنعة المتخبطة ببلطاتها وفؤوسها ووجوهها الشاحبة والدموية، بتغييرها لقطع الديكور (صممه زهير العربي) حيث كان هذا التغيير يتم رقصا بين كل لوحة وأخرى، مضافا إليها غرائبية طقوسية تمادت بعض الشيء في حياكة دراماها الراقصة والمقنعة، لكنها كانت مغرية لاقتحام فضاء جديد وشجاع، تناول إسرائيل من الداخل، لكن بأسلوب مدرسي ومباشر بعض الأحيان، جعل من اللونين الأسود والأبيض حاملا رئيسا لنمذجة الشخصيات المُقدمة، لا سيما أن شخصية «فريد» التي ظلت في طقمها الأبيض وجها لوجه مع غربان سوداء فاحمة مثلت الشر المطلق، لنكون أمام تطرف شكلاني لا يمت بصلة للقراءة الإخراجية التي حققت النص كحوار مستمر بين الرقص والقناع والضوء.
المصدر: السفير