«ورفع السماء ووضع الميزان»
افرض أنك تجادلت معي. فإذا غلبتني مثلاً، فهل أنا بالضرورة على باطل؟ وإذا غلبتك فهل أنا بالضرورة على حق؟ هل يفترض أن يكون أحدنا محقاً والآخر مخطئاً؟ أم أن كلينا محق ومخطئ؟ لا أنا ولا أنت نعرف ذلك ولا أحد سوانا، فمن ينبغي أن نسأل ليعطي القرار الصحيح؟ قد تسأل أحداً يتفق معك ولكن مادام يتفق معك كيف يمكنه صوغ القرار؟ وقد تسأل أحداً يتفق معي ولكن ما دام يتفق معي كيف يمكنه صوغ القرار؟
هذه التساؤلات أقلقت الحكيم الصيني «تشوانغ تسه» ابن القرن الثالث قبل الميلاد فصنع منها تمرينات فلسفية لتلاميذه، ليغرس في نفوسهم معرفة حية ضد الشخصية القمعية المستبدة. فالإنسان حر في رأيه لا يُذل لأحد ولا يقمع أحداً. ورفض الذل وتحمل ضغط الحاجة لصون كرامة النفس البشرية هي لزوم الحر الذي لا يخضع لعبودية. والإنسان الحر لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء، فالملك لا يكون لأحد، بل لجميع الناس، حتى لا يعلو أحد على أحد. ومن أجل ذلك وضع الميزان للناس كافة، والناس سواسية، فقير وغني، حاكم ومحكوم، راع ورعية، لئلاّ يتجاوزوا العدل والحق، ولا يُخسروا الميزان.
وفي هذا السياق يورد الشيخ «عبد القادر الكيلاني» المتوفى في بغداد عام 561 هجرية، أن وظيفة الحكيم أو الفيلسوف هي خدمة الخلق المتعبين، وإيجاد الراحة لهم، وهذا يكون بتوفير الطعام للجياع وأهل السبيل، ليخرجوا من ذل الحاجة. وكان يقول فيما ورد عنه في كتاب «قلائد الجواهر»: فتشت الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الجياع. أود لو كانت الدنيا في يدي لأطعمها للجياع. وهذا يعني جعل ثروات الأرض مشاعاً للجياع. وانظر إلى هؤلاء الجياع المساكين الذين يجوبون شوارع المدن المكتظة بالمتخمين ويطالبون بحقهم الأبدي من مال الله. إن وجود هؤلاء في الأرض هو بحد ذاته توبيخ من الله للأغنياء المترفين الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيله.
وما تزال الدنيا تدور بعيدة عن ملك الجياع. ولم تكتمل محاولة بلاشفة روسيا بقيادة حكيمهم لينين قلب الدنيا لمصلحة الفقراء، وما يزال الجياع في الانتظار. مع أن لينين وعدهم في مقال خطير منشور في جريدة البرافدا في العدد 251 تاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1921 تحت عنوان حول أهمية الذهب: «حين ننتصر في النطاق العالمي، سنصنع من الذهب، كما أعتقد، مراحيض عامة في شوارع بعض أكبر مدن العالم. وسيكون ذلك أعدل استعمال للذهب وأوضحه دلالة للأجيال التي لم تنس أنه بسبب الذهب ارتكبت أبشع المجازر بحق الإنسان». حلمان في قول لينين: حلم انتصار الجياع وبناء مجتمع العدل، وحلم التخلي عن الملكية، وجعلها مشاعاً بين الناس. ولينين في حياته تحول إلى طاقة روحية خالصة مستثمرة لأجل تحقيق هذا الحلم. وربما لوعاش لينين بضعة أعوام أخرى لاقترب من تحقيق حلمه في مجتمع لا مالك فيه ولا محروم ولا قامع ولا مقموع، مجتمع مشاعي كما تبلور في وجدان أهل الحكمة والفلسفة.