أيهما أكثر طرافة: العصيدة أم دقيق الشوفان؟
أيّ الكلمتين أكثر طرافة: «العصيدة porridge» أم «دقيق الشوفان Oatmeal»؟ رغمّ أنني وزميلي، سألنا بعضنا البعض هذا السؤال من فترة، فهو يبدو أمراً غير منطقياً البتّة. فتقرير أنّ أمراً ما مضحك يجب أن يأتي ضمن سياق ما، مثال: كلب يقوم بالتزلّج، أو الشعور بالصدمة التي يقوم بها الكوميديون عندما يبنون نكتة. ولكن قد لا يجري الأمر على هذا النحو، فإن كانت الكلمة مضحكة في حدّ ذاتها. فهذا سينهك كلّ نظريّة إنسانيّة عن الضحك قد تمّ صوغها. ونحن هنا نتكلّم عن أمور بسيطة قد تدفع أفلاطون وآرثر شوبنهاور وجورج كارلين إلى التقلّب في قبورهم. إن كانت إحدى الكلمتين أكثر إمتاعاً من الأخرى فهذا من شأنه زلزلة الأرض، لأنّها ستقلب كلّ شيء قاله الجميع في أيّ وقت مضى.
تعريب: عروة درويش
لننظر إلى واحدة من أقدم نظريات الفكاهة: نظريّة التفوّق. بالنسبة لأفلاطون فإنّ الهدف من الفكاهة هو إظهار شخص ما تفوقه على آخر. يمكن للعبد أن يضحك على أوّل مشكلة عاديّة تحدث مع مالكه، ويمكن للمالك أن يضحك على الطريقة المضحكة التي يتكلم بها عبده. يجادل أفلاطون في كتاب القانون بأنّ كلا هذين الفعلين هما مبسطين وغير أخلاقيين: فالفكاهة كانت استمتاعاً شريراً على نكبة الآخر. لكنّ هذه الفكرة لم تنتهي بموت أفلاطون، فبعد مئات الأعوام أشار توماس هوبز عام 1650 في كتاب «الطبيعة البشرية»، بأنّ الضحك هو «نصر مفاجئ» نشأ كنتيجة لشعور أحدهم «بالسمو» على «عجز الآخرين».
سخر أرسطو من فكرة التفوّق، واقترح بدلاً عنها فكرته الخاصة عن التفوّق، مدعياً في كتابه فنّ الشعر بأنّ التسلية تكمن في سخافة محيطنا. لقد جادل بأنّ الضحك على الكوميديا ليس مؤذياً، وبأننا نملك جميعاً بوصلة أخلاقيّة تخبرنا متى علينا التوقّف. وقد ميّز بشكل واضح بين التراجيديا والكوميديا. ففي حين أنّ كليهما يظهران ارتكاب البطل لخطأ ما، فإنّ التراجيديا تستحضر الحزن والتعاطف لدى الجمهور، وتسير حبكة القصّة إلى نهاية مدمرة. بينما تستثير الكوميديا السخرية والضحك، ونتائجها لا تحوي تمنياً بسقوط مريع لمن نضحك عليه.
لقد تطوّرت فكرة الفكاهة غير المؤذية على الحماقة، لتصبح ما نسميه اليوم «تمييز التناقض incongruity resolution». يسلّط هذا الضوء على حقيقة أنّ لكلّ منا عالمه الداخلي. فبينما نكبر ونتعلّم، نبني شبكة من التوقعات: نموذجاً لعالم نحمله داخلنا. مثال: نعلم بأنّ الكلاب هي غالباً صامتة، وتقوم أحياناً بالنباح. والنزاع بين ما نعلمه وما نختبره في الواقع هو التناقض incongruity. ويمكن لهذا التناقض أن يكون طريفاً: تخيّل أن تستيقظ فتجد أنّ كلبك يتحدث عن أسعار الذهب.
تدعى إحدى أبرز نظريات تمييز التناقض «الخرق الخفيف benign violation»، وهي تشرح عن نفسها من اسمها. الطرافة هي حدث غير متوقع لا يؤذيك. أشار عالما السلوك بيتر ماكغرو وكاليب وارن في عام 2010 إلى أننا نقدّر الفكاهة عندما يحدث خرق لأمر اعتيادي، ولكنّ يجب أن يكون مثل هذا الخرق غير خطير. يمكننا تناول موضوع حدث منذ فترة طويلة، مثل الضحك على علاقة فاشلة أو على حدث قديم أو على قيم لا نثمنها عالياً. إن مزجت هذه المكونات فستحصل على فكاهة.
إنّ الكمّ الهائل لنظريات الفكاهة مذهلة. في كتاب «التعبير عن المشاعر لدى البشر والحيوانات» عام 1872، شبّه تشارلز داروين الفكاهة «بدغدغة العقل». وقد أشار كلّ من هربرت سبنسر في مقالات «فيزياء الضحك» عام 1860، وسيغموند فرويد في مقالات «الفكاهة» عام 1928، إلى أنّ الفكاهة هي طريقة جسدنا لتفريغ الضغط القائم، أي وسيلة للتخلّص من التهيّج الجنسي بطريقة مقبولة. يظهر كلّ هذا كم هي الفكاهة معقدة، ومرتبطة بمجموعة واسعة من الحالات النفسيّة. نضحك على نجاحات أطفالنا البطوليّة في باحة لعب الروضة، وعلى صفاقة حظنا العاثر، وعلى وضع قدمنا في دلو ماء موجود أمامنا أثناء انقطاع التيار الكهربائي وإطفاء الأنوار. ومن الممكن أن نضحك فقط لسماعنا الآخرين يضحكون.
لكن ماذا بشأن العصيدة؟
-2-
أجرى كريس ويستبري، عالم النفس في جامعة ألبرتا، عام 2016 دراسة مع زملاءه، عرض فيها كلمات بلا معنى مثل «ويستيسته» و «هياشز» للمشاركين، وطلب منهم أن يقرروا أيّ كلمة هي الأكثر طرافة. وباستخدام مقياس انتروبي لحساب مدى قرب الكلمات من اللغة الإنكليزيّة، استطاع ويستبري أن يتنبأ بمدى الأثر الطريف الذي ستتركه الكلمة لدى المتلقي. وقد تبيّن بأنّه كلما زادت غرابة الكلمة وبعدها عن اللغة الأصلية، كلما زادت طرافتها.
الغرابة قد تكون في عين الناظر. فإن كان اسمك ويستيسته فربّما لن تجده طريفاً، لكن ماذا لو كان اسمك هو ذات أحد أنواع حبوب الإفطار؟ ولمفاجأتنا، لم يسأل أحد من قبل هذا السؤال العلمي: ما مدى طرافة كلمة عصيدة؟ بالنظر إلى مدى التطوّر في الحوسبة و«حشد المصادر crowdsourcing» (حشد المصادر: هو استخدام مجموعة واسعة لأداء مهمّة واحدة، وغالباً ما يكون هذا الأمر عبر الإنترنت – المترجم)، فقد قررنا توجيه السؤال إلى الناس: ما مدى طرافة كلمة عصيدة على مقياس 1 إلى 5؟ كان هذا الأمر دقيقاً، فالتحقيق في مدى طرافة كلمة عصيدة ليس أمراً لعبة. بعد تجميع 4997 كلمة تمّ استخدامها بشكل متكرر في دراسات سابقة، أنشأنا استبيانات فرديّة تمّ إرسالها إلى ألف شخص عادي. وتمّ أخذ النتيجة بعد عدّة أيام.
كانت أكثر الكلمات طرافة هي «غنيمة – بوتي Booty»، وتلتها حلمة – تيت tit وصدر – بوبي booby وبوق –هوتر hooter وأحمق – نيتويت nitwit وسخرية – تويت twit وتهادي – وادل waddle. وافق الجميع تقريباً على أنّ الكلمات طريفة جدّاً. من ناحية أخرى، وافق الناس أيضاً على الكلمات غير الطريفة: مثل تعذيب – تورتشر Torture وإيلام – تورمنت Torment وإطلاق رصاص – غونشوت gunshot وموت – ديث death وحرب – وور war. ما الذي جعل الكلمات في قائمتنا مضحكة؟ كلّما كانت الكلمة أقلّ شيوعاً، كلّما تمّ تصنيفها كأكثر طرافة. ثبتت صحّة هذا في مجموعة متنوعة من المقاييس، بما في ذلك كتب التسلية وترجمة الأفلام. عندما لا تكون الكلمة مألوفة لدينا، فإنّنا نشعر بأنّها أكثر طرافة – وذلك على غرار رؤيتنا لكلب يتحدّث عن البضائع، أو لويستيسته يمضغ هاشيز.
ومع ذلك، فإنّ التكرار القليل ليس كافياً لجعل الكلمة طريفة. يجب ألّا تكون الكلمة سلبيّة جدّاً أيضاً. هذا يتفق مع نظريّة الخرق الخفيف: فإن كان الوضع جديّاً، فنادراً ما سنجده طريفاً. نتحدث هنا عن الموت وعن التعذيب حيث لا شيء ممتع بخصوهما. لكن بإمكانك الحديث عن «تعذيب الصدر» أو «إيلام السخرية»، لتحصل على شيء طريف من جديد. ونحن لا نملك فكرة عن سبب حصول هذا.
لماذا قمنا بكلّ هذا منذ البداية؟ هل حقّاً يهمّ أن نعلم إن كانت «غنيمة booty» أكثر طرافة من «بوق hooter»؟ الجواب هو نعم شديدة. يقول الناس غالباً بأنّ الضحك هو أفضل الأدوية، لكن دواء من أجل ماذا؟ تشير بعض الأدلّة إلى أنّه ضروري من أجل التعامل مع التوتّر ومن أجل معالجة أحداث الحياة السلبيّة.
هناك أدلّة أخرى تشير إلى أنّ الذين يضحكون لديهم أيضاً تصورات أكثر صحّة عن أنفسهم. إن كنت تستطيع الضحك، فأنت تنمي جانباً إيجابياً من شخصيتك، ممّا يؤدي إلى صحّة جسدية ونفسية. لذلك فإنّ محاولة فهمنا حسّ الدعابة هو محاولة فهمنا لأنفسنا. إن استطعنا فهم ما يدفعنا للضحك، فيمكننا أن نفهم جزءاً من سير البنية المعقدة لدماغنا. ولهذا فنحن نعلم الآن بأنّ العصيدة أكثر طرافة من دقيق الشوفان.