حواريات بيئية في ربوع كفر سوسة: «شهية طيبة» أم «نعمة دائمة»

يبدو أن الطعام لم يعد لدينا لا على الطريقة الأوروبية «شهية طيبة» في بداية الطعام ولا على الطريقة العربية «دايمة» و «صحة وهناء» في نهاية الطعام.
فلا الشهية موجودة ولا الصحة ولا الدوام لطعامنا الذي اشتهر عبر العصور  وفي العالم بأنه لذيذ شهي وصحي ووفير.
لا لا لا. ليس تشاؤماً، بل واقعاً ينبغي تبصره وإيجاد مخرج له.

فلاحو كفر سوسة يقولون: يصلنا في الصيف من الماء بقدر مسكبة واحدة وهي من الصرف الصحي..  وتأتي المياه المالحة من دمر والمزة القديمة..

كفرسوسة
تجولنا في بساتين كفرسوسة والمزة ظانين أنها مازالت على ما سمعناه عنها ولكن «لا يدوم شي على حاله»، فالحال «لا تسر عدو ولا صديق» كما قال الفلاحون، فلا النهر نهر ولا الأرض أرض.
* * في مقابلة مع الفلاح عبد اللطيف أسد من فلاحي كفرسوسة المقيمين في الأراضي التابعة للمزة منذ 50 عاماً والبالغ من العمر 67 عاماً تحدث عند سؤالنا عن أوضاع المياه في المنطقة فقال:
أوضاع المياه من سيئ إلى أسوأ. سابقاً كنا نسقي من مياه بردى، وكانت الأمور منظمة حسب تقسيمات المياه التي ورثناها عن أجداد أجدادنا، وكانت المياه تفيض في بعض الأحيان عن حاجتنا خصوصاً في فصل الشتاء، ولكن المياه بدأت تشح منذ السبعينات، وهي الآن لا تكفي الحد الأدنى، وبدأت تتلوث منذ أواخر الستينات مع قدوم «الغربتلية» حيث كان الولد سابقاً لا يجرؤ أن يرمي حجراً في النهر أما الآن فلا أخلاق فالجميع يرمون قاذوراتهم ونفاياتهم عدا الصرف الصحي في النهر.

آبار لمن يختار
ونضطر الآن إلى حفر الآبار للحصول على مياه السقي، ولكن حتى هذه المياه الجوفية يزداد وضعها سوءاً يوماً بعد يوم حيث كنا نستطيع أن نجد الماء على عمق ثلاثة أمتار في الستينات وعلى عمق ثمانية أمتار في السبعينات والآن تظهر بوادر المياه على عمق 35-40 متراً ولا يمكننا سحبها قبل 50-70 متراً.
ولكن السقي الأساسي هو من مياه النهر التي لم يبق منها سوى «السياقات» المياه المالحة وحتى هذه المياه يجادلوننا بأنها ليست من حقنا.
مياه من مصادر غير سارة

* وهل هذه المياه العادمة صالحة للاستخدامات الزراعية؟

* * هنالك بعض النباتات وخاصة الصغيرة التي لا تنمو مع المياه الملوثة منها الكوسا والبندورة والبازلاء التي تحترق من المياه العادمة، وكذلك بعض الأشجار كالمشمش والزيتون الذي يبس بسبب المياه «القليطية» -نسبة إلى نهر قليط المشهور تاريخياً بقذارته-  وهناك أشجار عمرها أكثر من 200 سنة يبست. وهناك نباتات أخرى تقاوم بل حتى تزداد إنتاجيتها مثل البقدونس والكزبرة والبصل والبراصيا والخبيزة والملوخية والفجل والفول، ومن الأشجار الحور والتين.
وإن معظم الفلاحين هنا من أصحاب الملكيات الصغيرة فلا يستطيعون حفر بئر لأنها تكلف كثيراً لذا فنحن مضطرون لانتظار المياه الملوثة التي لا تكفي أحداً.

دفاتر نحاسية
* كيف يتم توزيع المياه على الأراضي؟
* * الحقوق موثقة عند الجمعية الفلاحية والدفاتر كلها عند شخص من عائلة  مرمر وهذه الدفاتر مكتوبة منذ زمن الأجداد. وكان يوجد دفتر نحاسي عند زكي بقلة فيه لكل فلاح وقت محدد وأعتقد أن أصول تقسيم المياه عثمانية.
* * وفي حديث مع مصطفى مرمر أشار إلى أن المقسم (مكان تقسيم المياه) كان أكباش حديد وخشب سابقاً ومنذ 35 عاماً تم أخذ القياسات والمنسوب لكل بلد من التي ستوزع عليها المياه و صب مقسم أسمنتي،  بحيث تكون حصة «يزيد» 65% من «بردى» وحصة «المزاوي» 50% مما تبقى من «يزيد» وحصة «الديراني» 50% مما تبقى عن «المزاوي» وهكذا.

عدَّان
وتقسم المياه في المزاوي إلى ثلاثة عشر عداناً (أي على ثلاثة عشر يوماً) وهذا حسب التقسيمات التاريخية التي لا نعرف متى بدأ أصلها. وقد تم تغيير التقسيم حديثاً بإضافة يوم ليصبح أربعة عشر يوماً ثم التقسيم على اثنين لتصبح أسبوعا وبهذه الطريقة أصبحت الساعة المائية تساوي نصف ساعة أسبوعية، وهذا كله مسجل في دفاتر الملكية عند المهندس الزراعي سليم شعبان وهي دفاتر منسوخة عن دفاتر الخطيب ، وتوجد لجنة للنهر ضمن الجمعية الفلاحية هي المسؤولة عن الموضوع لمنع الخلافات. قبل العشرينات من القرن الماضي كانت ملكية المياه حسب الأراضي ثم أصبح توزيعها بعد ذلك غير مرتبط بالأراضي فيوجد الآن فلاحين لديهم أرض دون ماء أو بالعكس ماء دون أرض.
وسابقاً كان هناك اثنان من الملاكين الكبار في المزة هما أمين المعلم (أبو كامل)  وله ثلاثة أيام وبيت الدقر ولهم يومان ونصف وما تبقى من فلاحي المزة جميعهم لهم يوم ونصف من المياه فقط. أما الآن فيوجد أربعة أو خمسة ملاكين كبار والباقي فلاحين لديهم مساحات صغيرة وذلك بسبب توزيع الأراضي على الورثة، مما يجعل كثيراً من الفلاحين يرغبون في بيع أرضهم لإنتاجيتها المتدنية جداً.

مياه سياحية
 ويصل من مياه بردى الآن جزء بسيط جداً -عدا أيام المعرض- حيث ضخت المحافظة المياه من الآبار وسدت المجاري حتى ترى الناس ماء في النهر- يعني «سياحة»-. يصلنا في الصيف من الماء بقدر مسكبة واحدة وهي من الصرف الصحي لا من النهر، وتأتي المياه المالحة من دمر والمزة القديمة ومساكن الضباط التي لم توصل بشبكة الصرف الصحي، حيث أن البيوت التي على النهر مباشرة ترمي بمياهها في النهر .

خطأ فرنسي
* ومتى بدأ تصريف المياه المالحة في النهر؟
* * بدأت المجاري تصرف في النهر بشكل كثيف منذ حوالي الأربعين عاماً، وسابقاً كان لكل بيت حفرة فنية تفرغ بين الحين والآخر،والخطأ كما يقول أهلنا هو خطأ فرنسا لأنها هي أول من بدأ بتنزيل المجاري إلى النهر، وكنا سابقاٌ نشرب من مياه النهر، وكانت الفيجة تدخل إلى الأحياء بتمديدات والناس تشرب منها دون أن تدفع، وعندما سكبت فوق النهر المياه المالحة لم تعد المياه مياهاً.

المرحوم مشمش
* وهل تؤثر المياه المالحة على المزروعات؟
* * لقد سألنا المهندس الزراعي مأمون الريان عن ذلك أشار إلى أن بعض الورقيات التي تؤكل نيئة، تصبح صعبة التنظيف كالخس والكزبرة والبقدونس والثمار التي لا تغمر بالمياه ربما لا يظهر التأثير المباشر عليها، ولكن شيئاً من هذا التلوث ينتقل إلى الثمرة بالتأكيد. والمشمش والجوز يتأثران بالتأكيد ونحن نرى كيف دمرت الغوطتان بالمياه الملوثة والقذرة.

من مورد إلى مستورد
 وهذا بالطبع ليس السبب الوحيد فهجوم الأسمنت ملأ الغوطتين الشرقية والغربية بالبناء وقلص الأراضي الزراعية، وجو المدينة موبوء بالهواء بسبب المعامل والسيارات مما يؤثر على نمو الأشجار خاصةً، وقد كان سوق الهال في دمشق منذ أكثر من عشرين عاماً المركز الرئيسي للتصدير إلى المدن السورية، أما الآن فانقلبت الحكاية إذ نستورد من باقي المحافظات.
والحقيقة أن القرى الثلاث التابعة لمحافظة دمشق المزة وكفرسوسة والقدم وبقايا بساتين الشاغور ودمر ليس فيها وحدة إرشادية، فكل الوحدات الإرشادية هي في الريف، رغم أنه يجري التفكير حالياً في إنشاء وحدة إرشادية لكل هذه القرى .

حقنا في الراجع
وقد تقلصت كميات المياه خلال السنوات الخمس السابقة بنسبة 50% وهذا الشتاء لم تصل كمية المياه إلى ما كانت عليه في الصيف الماضي، فهي حوالي 10% من كميتها العادية، والموضوع ليس موضوع جفاف، فالفيجة تسحب 200000 م3 من أجل الشرب، نحن لا نعترض فمن حق الناس أن تشرب وبردى للناس ولكن لنا حق في المياه الراجعة من مياه الصرف الصحي المعالجة في محطة عين ترما، وطالما أن مياه النهر لا تصل إلينا أما إذا تمت المحافظة على مياه النهر نظيفة فنحن لسنا بحاجة إلى مياه الصرف الصحي.

مزارع وحقول
تصوروا أن سعر ساعة الماء عندنا يصل إلى 50 ألف ليرة سورية وهي تعادل نصف ساعة أسبوعية وتسقي دنماً من الأرض أو أكثر من ذلك بقليل، والمياه رغم ذلك لا تصل لأن المتنفذين في مزارعهم قرب نهر بردى يسحبون الماء بالمضخات التي يصل عددها إلى ألف مضخة، مياه بردى جيدة ولكنها لا تستوعب ألف مضخة تسحب خصوصاً في الصيف لتروي مزارعهم.

* وما هي أنواع الكيمياويات التي تستخدمونها في الأسمدة والمبيدات؟
* * بالنسبة إلى الأسمدة لا نستخدم الأسمدة الكيماوية إلا فيما ندر وذلك للملوخية والباذنجان، ونستعمل العمارة (السماد الطبيعي) وهي أفضل للأرض وخاصة أن معظم الفلاحين يربون الأبقار، ولكن حتى العمارة لم نعد بحاجة إليها فمياه الصرف الصحي كافية وبنفس المردود تقريباً فالمياه الملوثة تكفي أرض «اللوان» مثلاً عمارة مرة كل عشر سنوات بينما بالمياه النظيفة نحتاج إلى كميات كبيرة، وهناك بعض المزروعات التي تسقى قليلاً كالصبار أي ثلاث مرات سنوياً منها مرة في الشتاء، ومن المثير للغرابة أنه في حاكورة الدقر عندما ألغي تدوير الصرف الصحي عليها وسقيت بمياه البئر خف إنتاجها.

تعزيل وتعديل
* وماذا عن تعزيل النهر؟
* * نحن مسؤولون عن تعزيل المزاوي من النهر حتى هنا وندفع 500 ألف ليرة سورية عدا ما تدفعه الدولة وذلك يعادل 40%. ويتم ذلك في الشهر الثامن بعد السقاية وهذا غير منطقي لأننا بحاجة إلى ذلك قبل السقاية ولا يقبلون في المحافظة إعطاء المتعهد المشروع في الشهر الرابع وذلك خوفاً من المياه المفاجئة، والحقيقة أن النهر بحاجة إلى تعزيل بعد خمسة عشر يوماً من التعزيل الذي تقوم به المحافظة وهذا يتم عادة على حساب الفلاحين حيث أن النهر ضيق والأوساخ كثيرة والمخلفات تملأ ضفتي النهر وتسد النهر في بعض المناطق، حتى أن أحدهم سد الحالول (فرع صغير من النهر) ولا أحد يجرؤ على محاسبته رغم أنه ملكية للنهر ولدينا خرائط تثبت ذلك.

الحق على الدمرانية
وبما أن بلدية دمر لا تستفيد من النهر -باعتباره أخفض من دمر- فهم يرمون نفاياتهم في النهر تصور أنه توجد كنبيات وآظانات في ماء النهر مما يسيء إلى نوعية المياه وسهولة جريانها.
كان الأولاد سابقاً يعاقبون عندما يرمون حجراً في الماء أما الآن فيربون بطريقة مختلفة وأعتقد - والكلام لمرمر طبعاً -أن تربيتهم فسدت منذ ثلاثين سنة حتى الآن. فالكل يتربى على المنفعة الشخصية فقط، والرشوة إحدى مظاهرها، تصور أن أحد الجسور تم تصميمه على مزاج أحدهم من بيت سكرية مما جعل تعزيل النهر مستحيلاً في تلك المنطقة كل ذلك على حساب النهر.
من أين ينبع الخطأ يا ترى؟ أهو من الفلاح، أو من المحافظة، أو من التخطيط، من فرنسا، من التربية المنزلية، من النهر!، أم من الإنسان؟
يبدو أننا بحاجة إلى ألا نلقي بتبعات مصاعبنا ومصائبنا على جهة بعينها. فالمسؤولية مشتركة إلى حد ما، ولكن اعتبار المسؤولية مشتركة يفترض مخرجاً مشتركاً للحل، فما هو الحل أو الحلول؟ بانتظاركم في رؤية جديدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
169