واقع الحركة السياسية وآفاقها (2 من 2)

تنشر «قاسيون» القسم الثاني والأخير من محاضرة الرفيق د. قدري جميل التي ألقاها  في المركز الثقافي العربي في السقيلبية، بتاريخ 28/1/2003  تحت عنوان: «واقع الحركة السياسية وآفاقها»:

■ القوى التي أسست الجبهة الوطنية التقدمية كانت قوى فاعلة وحقيقية في حينه

■ الجبهة تكونت في لحظة تراجع عام لمجمل الحركة

■ الخط البياني لتطور أحزاب الجبهة، خط نازل..

■ أمراض العمل الجبهوي أمراض ذاتية..

■ عندما تضيع الحدود بين الحزب والدولة يتضرر الحزب وتتضرر الدولة

■ الهوّة بين الأحزاب والشارع تحولت أحياناً الى هوّة بين قيادات الأحزاب وقواعدها..

■ القضية الوطنية، والاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية تعبر عن جوهر واحد هو قضية الوطن والمواطن..

■ الإمبريالية الأمريكية تريد تحقيق نصر ساحق، ولكنها ستمنى بهزيمة نهائية

■ المطلوب استعادة دور الأحزاب وردم الهوّة بينها وبين الشارع

■ حدة تناقضات الإمبريالية اليوم تسمح بالاستنتاج أنها ستندحر.. والمعركة القادمة معركة حاسمة..

■ قمة جهاز الدولة الفاسد في الاتحاد السوفييتي، أفسد القيادات الحزبية ودمجها بنفسه..

■ البحث جدياً عن كيفية إعادة الأحزاب إلى السياسة، كيفية إعادة الأحزاب إلى الجماهير وكيفية إعادة الجماهير إلى الشارع..

أمراض أحزاب الجبهة:

■ الركض وراء الامتيازات

■ الاكتفاء بالعمل من فوق

■ حل تناقضاتها بشكل غير صحي

... إن هذه المقدمة كان لابد منها للوصول إلى الحديث عن وضع الأحزاب السياسية في سورية.. يجب تناول هذه المسألة منذ نشوء الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت في حينه حدثاً هاماً، فقد ضمت قوى هامة وموجودة فعلياً على الساحة السياسية السورية، حزب البعث والناصريين والتيار اليساري ممثلاً بالشيوعيين ، هذه القوى كانت في حينه قوى فاعلة وحقيقية، البعض يرى اليوم أن الأحزاب المكونة للجبهة، ما عدا الحزب الرئيسي، ضعفت لأنها دخلت الجبهة. ولكن الأرجح أن القضية ليست كذلك، فالجبهة تشكلت في لحظة تراجع عام لمجمل الحركة (وهو ما تمت الإشارة إليه سابقاً) لذلك فإن الكل كان يتراجع إلى الوراء.  ومسألة أخرى هي أن الجبهة عندما تشكلت دخلها الجميع على أساس الأهداف المعلنة، لكن الكل كان آخذاً بعين الاعتبار أنه مع الوقت وشيئاً فشيئاً سيحاول كل طرف جذب الثاني إلى طرفه، وتغيير ميزان القوى لصالحه، لكن  ميزان القوى كان يتغير لغير صالحهم دون أن يعوا، لأنهم جزء من حالة كانت تتراجع بشكل عام، لأنهم جزء من حركة عالمية كانت في حالة تراجع. هذا التراجع هو الذي أثر سلبياً على وضع هذه الأحزاب.

خط بياني نازل

نعم، كانت الأحزاب جدية، لكن إذا قيَّمنا وضعها في كل عقد من السنين الماضية. و رسمنا خطاً بيانياً للأحزاب المكونة للجبهة ـ ليس الحزب الرئيسي لأنه حزب حاكم ـ  فسنجد أن هذا الخط البياني هو خط نازل، وهذا ما يحتاج إلى دراسة وتعميق.

القضية تكمن هنا، فأين المشكلة؟ المشكلة أن هذه الأحزاب التي لم تكن واعية لخطها البياني النازل أصابتها جملة من الأمراض يمكن تسميتها بأمراض العمل الجبهوي، وهي ثلاثة أمراض رئيسية، وهي أمراض ذاتية، ولو كانت حالة الوعي متوفرة لكان من الممكن تجاوزها وعدم الوصول إلى الوضع الذي نعيشه اليوم، والذي يتجلى بوجود أحزاب بالاسم دون وجودها بالواقع، لدرجة أن الحزب الأساسي الحاكم مضطر لتحمل عبء هذه الأحزاب كلها، العبء التمثيلي والسياسي وغيره، يتحمل هذا العبء مشكوراً لكن لا نعرف إذا كان هذا الأمر يفيد الأحزاب، هذه الأحزاب التي يجب أن توضع أمام وضعها الحقيقي حتى تتم معالجته.

الأمراض التي عمَّقت أو ساهمت بتعميق المشكلة:

المرض الأول: مرض مرتبط بمسألة أكبر من الأحزاب نفسها اسمه مرض الامتيازات والمكاسب. كيف؟ الأحزاب في تطورها في القرن العشرين، منذ أن ازداد وزنها النوعي بعد ثورة أكتوبر عام 1917، وبعد أن أثبتت قوتها بين الناس كان مصدر تلك القوة، القوة  المعنوية، لأن الحزب فكرة، وهذا يتطلب منه أمام جماهيره أن يكون متقشفاً زاهداً متواضعاً، وإن كان غير ذلك فالجماهير لا تمد يدها إليه. وهنا لدينا مثلث: الدولة، الأحزاب، المجتمع،  لدى أية دولة، بما فيها الدولة السوفييتية كما بينت الوقائع، ميل للهيمنة على المجتمع وعلى أحزاب المجتمع، لذلك فإن الفصل بين الأحزاب والدولة قضية هامة، لأن الدولة كجهاز مكلف بمهمة معينة نظرياً من قبل المجتمع عنده ميل لأن ينفلت دائماً من رقابة المجتمع، وبخاصة أن إمكانية الفساد والإفساد داخله قوية موضوعياً إذا أفلت من رقابة المجتمع. فمن يريد الخروج من رقابة المجتمع يهمه إفساد أحزاب المجتمع، يهمه التماهي بين الدولة والأحزاب الموجودة في المجتمع لأن الدولة في الظروف الحالية هي عبارة عن امتيازات مادية ومعنوية، بينما الحزب قوة معنوية، ولذلك عندما تضيع الحدود بين الحزب و الدولة يتضرر الحزب وتتضرر الدولة. يتضرر الحزب لأنه يفقد قوته المعنوية، وتتضرر الدولة لأنها تفقد جهازها الرقابي وجهازها التصحيحي، لأن الأحزاب هي قوة المجتمع الواعية المنظمة. ويجب أن لايفهم عند القول بضرورة فصل الحزب أو الأحزاب عن الدولة أن تترك الدولة كجهاز دون تحكم تفعل ما تشاء، بل على العكس تماماً، المقصود هنا هو التحكم بجهاز الدولة من قبل المجتمع ولصالح المجتمع إلى أقصى حد ممكن من خلال أحزاب المجتمع. ولكن حتى يقل ويخف تحكم المجتمع بالدولة تقوم القوى الفاسدة والمائلة للفساد في الدولة والتي  لديها مصلحة دائمة بذلك تقوم على دمج القوى الطليعية في المجتمع بجهاز الدولة بأشكال مختلفة وعندما تنجح عملية الدمج هذه تخرج الدولة عندها من تحت رقابة المجتمع.

الحدود بين الدولة والأحزاب

يجب الإشارة بهذا الصدد إلى مسألة كبيرة يجب أخذها بعين الاعتبار وذلك بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي حيث جرى الخلط بين جهاز الدولة والحزب، وهذا ما أضر كثيرا بالحزب لدرجة يمكن القول أنه لم يعد موجوداً، ولذلك عندما تفاقمت الأحداث وكانت هناك حاجة للدفاع عن النظام لم يكن الحزب موجوداً، لأن جهاز الدولة الفاسد أفسد القيادات الحزبية ودمجها بنفسه وهي اليوم تقود عودة  الرأسمالية في دول الاتحاد السوفييتي السابق كلها.

العمل من فوق، أو من تحت؟

المرض الثاني: عندما تكونت الأحزاب بين الجماهير، تكونت في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي معبرة عن مصالح الناس، لأنها كانت موجودة بينهم، تصوغ مطالبهم وتقف على رأس هذه المطالب بكل السبل والأشكال النضالية من مظاهرات وعرائض واعتصامات... وعندما أصبح لهذه الأحزاب وزراء وأعضاء مجلس شعب وأعضاء مكاتب تنفيذية في الإدارة المحلية تحول عفوياً مركز ثقل العمل اليومي في العمل الحزبي من تحت لفوق، تحول النضال من بين الجماهير ومن قيادة الجماهير إلى الأجهزة الرسمية مما أفقد بالتدريج خلال السنوات الثلاثين هذه الأحزاب علاقاتها وصلاتها السابقة  مع مجموع الجماهير. وبعد فترة لم تعد تعرف ما يجري على الساحة الجماهيرية. فإذا كانت لاتعرف ماذا يجري فهي بالنتيجة لن تعي ما هي مطالب الجماهير، وإذا عرفت مطالب الجماهير لم تعرف كيف يمكن لها أن تقود الجماهير لتحقيق مطالبها. وهذه المشكلة تنبثق من مسألة التماهي بين جهاز الدولة والأحزاب.

وهناك مسألة معروفة وهي أن المياه تجري بالطريق الأسهل، لذلك إذا كانت هناك قضية مطلبية يسعى ممثلو الأحزاب (طبعاً إذا حصل ذلك) لتحقيقها ليس عن طريق العمل مع الجماهير أصحاب المصلحة، أي ليس بالطرق النضالية العادية، بل بعيداً عن الجماهير التي يجب أن تدافع عن مصالحها وأن تتثقف ثقافة نضالية ثورية في كيفية دفاعها عن مصالحها. إن هذه الأحزاب كانت تحاول تحقيق هذه المطالب بالطرق السهلة، مما أضعف القدرة النضالية لهذه الأحزاب دون استثناء، ومع الوقت ومع ضعف هذه القدرة أصبحت غير قادرة على تحمل الأعباء النضالية السابقة التي كانت قادرة على تحملها والنضال من أجلها، هذا هو المرض الثاني من أمراض العمل الجبهوي.

الطريقة الصحيحة لحل الخلافات

المرض الثالث: من المعروف أن الأحزاب هي أجسام حية وتحمل تناقضات تحل عادة بالنقاش، ومن الطبيعي أن يكون فيها العديد من الخلافات، والخلاف بوجهات النظر إذا جرى بشكل صحي أو بشكل سليم فإن تأثيره الوحيد هو التقدم إلى الأمام، وعبر صراع الآراء. لكن نشأ وضع مشوه في بعض أحزاب الجبهة حيث أخذت القيادات الحزبية، بحل هذه المشكلات ليس ضمن المؤسسة الحزبية، على أساس النظام الداخلي الخاص بها، وإنما أصبحت تستمد القوة بشكل وهمي أو حقيقي من بعض أجهزة الدولة لقمع «المتمردين» عليها، أو بالأحرى المتباينين معها في الرأي، مما شوه الصراع الحزبي الذي كان مفترضاً به أن يقوي تلك الأحزاب. وبالتالي فإن هذا السلوك أضعف تلك الأحزاب وأضعف  مصداقية قياداتها ولهذا كله فإن الظرف الموضوعي من جهة، والعوامل الذاتية، الأمراض من جهة أخرى، عمّقت الهوة بين هذه الأحزاب والجماهير، وبمناسبة الحديث عن أحزاب الجبهة أقول إن الأحزاب التي تسمي نفسها أحزاب معارضة فهي من ناحية علاقتها  بالجماهير ليست بأحسن حالاً، فمن حيث علاقتها مع الناس والجماهير قد تكون مشكلتها أكبر وأعقد. لقد تناولت أحزاب الجبهة نموذجاً، لأنها نظرياً الأهم في الحركة السياسية، والأحزاب التي تسمي نفسها معارضة عندها مشكلة ولا أتفق معها بالرأي في أن ماتعرضت له من تقييد خلال الفترة الماضية هو الذي أضعفها. التاريخ إعطى أمثلة عديدة تعاكس هذا الاستنتاج. فالحزب الشيوعي البرتغالي مثلاً خرج من فترة التقييد ولديه القدرة على حشد عشرات الألوف من الناس في الشوارع، إن التقييد ليس هو الذي يقوي أو يضعف، لأنه في أوقات كثيرة نجد أن التقييد يقوي الأحزاب. كيف يتم ذلك؟ يقويه عندما يكون الظرف مواتياً. من هنا نجد أن التقييد ليس هو فقط الذي أضعف تلك الأحزاب، وهذا تبرير غير مقنع، يجب أن نعترف بأن المشكلة عند الجميع حتى نخرج منها كلنا، لذلك فأحزاب المعارضة ليست بأحسن حالاً من أحزاب الجبهة أبداً ولا تستطيع أن تحمّل مشاكلها لغيرها، المشكلة الأساسية تتحدد في برامجها وبطريقة تعاملها مع الشارع إلخ.... إذاً  هناك مشكلة حقيقية تحتاج إلى بحث جدي.

لقد لعبت أمراض العمل الجبهوي في سورية دوراً سلبياً. ولم تستطع الأحزاب أن تحصن نفسها من هذه الأمراض. ومن المعروف أن كل ظاهرة جديدة لها جوانبها السلبية، ولا يوجد في الحياة لون أبيض فقط أو أسود فقط. فالحياة حين تقدم ظاهرة جديدة تقدم معها جوانبها الإيجابية والسلبية، ولا ننكر أن الجبهة الوطنية التقدمية قد لعبت دوراً إيجابياً في حياة البلاد خلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، خلال معارك هامة خاضتها البلاد، ولكن وفي الوقت نفسه كان لهذه الظاهرة جوانبها السلبية. والتي لم تتم معالجتها مع الوقت فأصبحت هي الطاغية على الجوانب الأخرى. لذلك يجب معالجة هذه السلبيات من أجل استعادة دور هذه الأحزاب واستنهاضها وردم الهوة بينها وبين الشارع، ردم الهوة والقطيعة مع الشارع. وبالنسبة لنا كشيوعيين فإن الهوة بيننا وبين الشارع كبيرة لدرجة أن هذه القضية انتقلت إلى داخل الحزب، حيث أصبحت الهوة عميقة بين قواعده وقياداته، لأن القواعد في نهاية المطاف أكثر تحسساً لنبض الشارع، فهي التي تنقل التحسس بهذا النبض، وهذا الوضع أدى إلى مشكلة ثانية بين هذه القواعد وهذه القيادات، فالقطيعة بين الحزب والشارع تحولت إلى قطيعة بين القيادات وقواعدها، وكان يجب أن لا يتطور الأمر بهذا الشكل بل كان يجب إيجاد الحلول الإيجابية والعقلانية التي تسمح بنمو كل الحركة السياسية في البلاد.

استحقاقات كبيرة

واليوم نحن أمام استحقاقات كبيرة. فالولايات المتحدة الأمريكية تريد الحرب وإعادة النظر بخريطة المنطقة ككل، وفي اضعف الحالات هم مصرون على شن ُحرب كبيرة تستهدف الجميع في نهاية المطاف. وهذه الحرب لا يمكن مواجهتها إلا بقوى شعبية هائلة منظمة، وهذه القوى لا تستطيع أن تنظم نفسها بشكل عفوي بل تتطلب هذه العملية قوى وطنية تقدمية قادرة على أن تلعب الدور المطلوب في استنهاض هذه القوى، من هنا فإن السرعة في إعادة النظر بدور هذه الأحزاب المختلفة هي مسألة ملحة. هنا الحديث يتعلق بأحزاب الجبهة، ولكن من الضروري التأكيد أن الطيف الوطني في سورية هو أوسع بكثير من طيف الجبهة، حيث توجد هناك قوى وطنية خارج الجبهة، ويمكن اليوم أن يكون الظرف مواتياً للبحث عن أشكال جديدة للعمل، فالتفاهم بين كل القوى الوطنية الذي مقياس وطنيتها هو العداء للولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية بغض النظر بماذا تتفق أو تختلف في هذه القضية أو تلك من القضايا الداخلية مثل  القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية أوالقضية الديمقراطية. فالهام في الموضوع هو الاتفاق على القضية الأساسية أما بقية المسائل فهي مفتوحة للحوار والحياة تثبت صحة الرأي الأفضل في النهاية.

هذه قضية كبيرة تحتاج إلى بحث، وهناك جملة من القضايا ترتبط  ببعضها بعضاً ولابد من حلها وهي تحتاج إلى بحث معمق وهذه القضايا هي: القضية الوطنية والقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية وقضية الديمقراطية، ثلاث قضايا أساسية تحتاج إلى حل وهي قضايا مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً.

الخطر الآن كبير على استقلالنا الوطني وعلى كرامتنا وسيادتنا، وهذا الخطر له أشكال مختلفة، شكله الواضح هو الشكل العسكري الخارجي، وبرأيي أنه منذ فترة زمنية لا بأس بها عمل العدو بشكل ناجح داخلياً وأحياناً بشكل لانراه. وهو يعمل من أجل إضعاف الموقف الداخلي من خلال بعض القضايا الاقتصادية ـ الاجتماعية للإضرار بالموقف الوطني. فقوى السوق التي تدعو علنا ً لسياسة ليبرالية جديدة: وهي إنهاء القطاع العام والدعوة إلى الخصخصة إلخ.. وفي نهاية المطاف يصب مخططها في الاتجاه العام لقوى العولمة وتجلياتها الشرق أوسطية، فإذا كانت القضية الوطنية عندنا هي قضية النضال ضد إسرائيل وأمريكا فلا يمكن اعتبار القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية قضية مجردة، إنها قضية وطنية وعلى حلها بالشكل الصحيح يتوقف حل القضية الوطنية الأساسية.

دور المجتمع

وفي موضوع القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية تواجهنا مشكلة الفساد والنهب التي تؤثر على تطور اقتصادنا الوطني وعلى الاستهلاك الجماهيري، وقد بينت التجربة أن مشكلة الفساد التي تؤثر تأثيراً كبيرا ًفي المسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية لايمكن معالجتها خارج إطار المجتمع. فالمجتمع وحده القادر على معالجة الفساد لأن اللصوص والفاسدين أصبح لديهم ما يكفي من الطرق والأساليب والأدوات والمهارات وهم قادرون على تنويعها وتطويرها. لذلك إذا كنا نريد متابعتهم بأجهزة الرقابة والتفتيش فإن هذه الأجهزة، حتى لو كانت جدية ومخلصة فلن تحيط بتلك الأساليب والطرق التي طورها هؤلاء لنهب الدولة والمجتمع. لذلك يجب إشراك المجتمع عامة لاجتثاث هذه الظاهرة. وإشراك المجتمع بالمعنى السياسي هو توسيع الديمقراطية حتى تصبح قادرة على أن تعبر عن هموم الناس وأن تدافع عنها، و الدفاع عن لقمة الجماهير هو دفاع عن القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية، دفاع عن القضية الوطنية.

إن القضايا الاقتصادية ـ الاجتماعية لايمكن حلها الآن في إطار أجهزة الدولة نفسها. فهذا مستحيل موضوعياً، فالحل الصحيح للقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية، هو الحل الوطني لها  وهذا يتطلب إشراك أوسع قدر من الناس بهذه العملية، وإشراكهم يعني العلنية والشفافية وحرية التعبير والرأي بكل هذه القضايا، هذا الأمر سيشل قوى السوق والسوء، سيشل قوى السوق والفساد وسيفضحها ويعريها ويمنعها من لعب دورها السياسي المطلوب منها في المراحل القادمة. من هنا فإن القضية الوطنية برأينا هي قضية اقتصادية ـ اجتماعية وقضية ديمقراطية. وقضية الديمقراطية هي قضية وطنية وقضية اقتصادية ـ اجتماعية. هذه القضايا الثلاث هي أضلاع ثلاثة في مثلث واحد كلها تعبر عن بعضها بجوهر واحد لقضية واحدة هي قضية الوطن والمواطن. وجوهر هذا التعبير عنه وطني، اقتصادي ـ اجتماعي، ديمقراطي وكلها مسميات لمسمى واحد، لقد نشأ اليوم ظرف تاريخي ملائم جداً يسمح للتيارات الرئيسية الموجودة، وأعني التيار اليساري والتيار القومي والتيار الديني، هذه التيارات لديها اليوم في ظل العنجهية والهمجية الأمريكية والصهيونية، الكثير مما تتفق عليه، وهي قادرة على أن تتفق موضوعياً على القضايا الأساسية المطروحة أمام البلاد.

خط الفصل

إن خط الفصل بيننا وبين الآخرين لا يمر عبر اللافتات الأيديولوجية فأحياناً نجد ماركسياً أو متمركساً في الظروف الحالية يطرح، بحجة أن العين لا تقاوم المخرز مفهوم المصالحة مع إسرائيل الصهيونية. ويمكن أن نجد بعض المتأسلمين يطرحون بحجة التعايش بين الأديان، إلى المصالحة مع الصهيونية. ويمكن أن نجد بعض أدعياء القومية في هذه الظروف الحالية يدعون للمصالحة مع إسرائيل بحجة أنه إذا إسرائيل أعادت لنا قطعة من الأرض فما مبرر الخصام معها وبالتالي يوقفون صراعنا مع الصهيونية ومع إسرائيل.

من هنا إذا أردنا أن نحدد موقفنا على أساس اللافتات الأيديولوجية اليوم، نجد أن هذا غير ممكن، إن خط الفصل كثير التعرج بين هذه القوى، إن خط الفصل الحقيقي هو موقف أي إنسان وأي مؤسسة وأي تنظيم من قضيتين أساسيتين وهما: موقفهم من الولايات المتحدة الأمريكية، وموقفهم من الصهيونية.

نحن مستعدون أن نقف مع كل إسلامي يحمل السلاح بوجه الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية ونرى أن حركات الجهاد وحماس وحزب الله أقرب لنا بكثير من بعض المتمركسين الذين يعتبرون أن قضية السلام مع إسرائيل يمكن أن تغير طبيعتها العدوانية ويدعوننا أن نجرب ذلك. من يطرح ذلك ليس ماركسياً ونحن مع الإسلاميين الذين يحاربون معنا في خندق واحد ضد العدو الرئيسي.

من جهة أخرى فجماهيرنا الشعبية لديها شحنة هائلة بمختلف تياراتها بهذا الاتجاه، اتجاه معاداة الصهيونية والإمبريالية الأمريكية. والمطلوب أن نجد في نفوسنا القوة والجدية الكافية حتى نستطيع توحيد تيارات المجتمع الأساسية في المعركة الهامة والأساسية، أي المعركة النهائية، لكن بأي معنى نهائية، معركة نهائية مع الرأسمالية العالمية، مع الإمبريالية. لماذا؟ إن الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب تدخل في طور اللعبة النهائية، إما تحقيق نصر ساحق، أو هزيمة نهائية، وهذا افتراض يستحق البحث لأنهم بمعركتهم هذه يريدون استعباد شعوب بكاملها واستئصال شعوب أخرى إذا انتصروا. لكن إذا انتصرت الشعوب، ومنطق التاريخ يؤكد ذلك، وهو ليس انتصاراً لتلك النزعة النيومالتوسية والنيو ليبرالية، إن منطق التاريخ هو عكس ذلك تماماً هو انتصار للشعوب. لكن حتى يتحقق ذلك يحتاج إلى جملة من الشروط منها موضوع ندوتنا اليوم، وهو البحث جدياً عن كيفية إعادة الأحزاب إلى السياسة، كيفية إعادة الأحزاب إلى الجماهير وكيفية إعادة الجماهير إلى الشارع. إن كل هذه القضايا تحتاج إلى حل في ظروفنا الملموسة حتى نستطيع رفع درجة مناعتنا في وجه الغزو الإمبريالي الأمريكي الكبير والجديد.

تغير ميزان القوى

أننا نمتلك كل الإمكانيات لمواجهته وتحطيمه والخروج منتصرين من معركة هامة ستغير ميزان القوى العالمي، تغييراً هاماً لم تشهد له البشرية مثيلاً منذ اندحار ألمانيا النازية عام 1945 وتكون منظومة الدول الاشتراكية. إن هذا المنطق ليس منطقاً تفاؤلياً رومانسياً، بل هو منطق مبني على المعطيات الواقعية وعلى دراسة حدة التناقضات وطبيعتها في عالم اليوم، وعلى قدرة القوى الوطنية والتقدمية والثورية الكامنة فيها إذا مااستطاعت أن تستغل هذه الإمكانات الموجودة لديها، إذاما استطاعت تحريك الاحتياطات الموجودة عندها، ولابد هنا من أن نلاحظ أن عدونا يستخدم احتياطاته القصوى، وأما نحن فإلى الآن، كقوى وطنية وتقدمية وثورية لم نستخدم إلا جزءاً ضئيلاً من إمكانياتنا.

 

إن المعركة القادمة هي معركة حاسمة.