من صناعة الوعي العام المعارض إلى التجييش والتفتيت من «أمير» إلى «قائد» لملمة التراجع (2/2)
سمر عبدالحليم سمر عبدالحليم

من صناعة الوعي العام المعارض إلى التجييش والتفتيت من «أمير» إلى «قائد» لملمة التراجع (2/2)

 

بتاريخ 27/5/2015 عرضت قناة الجزيرة في برنامج «بلا حدود» الذي يقدمه مذيع البرنامج أحمد المنصور، لقاءً مع «أبو محمد الجولاني» مطلقة عليه لقب «أمير جبهة النصرة»، لاحقاً وبعد 5 أشهر بتاريخ 13/10/2015، عاودت الجزيرة لتبث رسالة مسجلة للشخص ذاته، ولكن هذه المرة بلقب آخر وبصفته «زعيم وقائد» جبهة النصرة، وليس أميراً، فما الذي استدعى تكسير رتبة ذلك «الأمير» ليغدو زعيماً وحسب؟!

تكثف هذه اللقطة البسيطة مفارقة هامة في أداء القناة في المرحلتين الثالثة والرابعة (راجع العدد 728 من قاسيون للإطلاع على توصيف المرحلتين الأولى والثانية)، فالثالثة: هي مرحلة «العمل على تسويق مشروع الإسلام السياسي كمشروع رئيسي»، وكـ«طليعة»، إن صح التعبير، على الجبهات كافة بما فيها جبهة الحراك الشعبي «المعارض» للأنظمة الرسمية.

والرابعة: هي مرحلة (تنظيم التراجع) لما بعد ضرب هذه المشروع في عمقه بعد «ثورة» يوليو التي أنهت حكم الإخوان في مصر، ولحقها تراجع دورهم في تونس وليبيا واليمن وصولاً إلى تركيا في الانتخابات الأخيرة، وإبان هذه المرحلة اتسم أداء القناة بـ «الردح».
مكونات ومفرزات طبيعية!
وفقاً للمرحلة الثالثة، فلم تألُ القناة جهداً في وضع عملية تسويق أشكال الإسلام السياسي كلها كمهمة رئيسية، وعليه صُدّرت هذه الجهات على أنها مفرزات طبيعية وواقعية من مفرزات الواقع العربي حتى في حالته الثورية هذه، وهي مرحلة إنتاج وعي جديد في مرحلة الثورات، بعد مراحل صهر الآراء المعارضة في اتجاه واحد ليبرالي الهوى من إسلامييه إلى علمانييه.
كان من الملفت مثلاً أن  تسمع على قناة الجزيرة تسمية «داعش»، بل «تنظيم الدولة الإسلامية»، حيث تتمسك القناة في هذه التسمية بمبدأ إعلامي يفرض عليها تسمية كل جهة باسمها الذي تطلقه على ذاتها، بينما لا تلتزم القناة ذاتها بهذه التعابير عندما يمس الأمر جهات أخرى كالنظام المصري أو السوري أو حركة «أنصار الله» في اليمن، كما أن تنظيم جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام) أصبح مكوناً طبيعياً من مكونات «الثورة السورية» وبخلاف ما عن رؤية جزء كبير من سياسيي المعارضة المرتبطة بالخارج، التي ترى أنه حتى لو كان «تنظيم النصرة» مكوناً طارئاً على الثورة فينبغي الاستفادة منه تكتيكياً في «إسقاط النظام»!
هنا تكمن المفارقة أن «الجزيرة» كنموذج لإعلام البترودولار خرجت من مساحة «الرأي والرأي الآخر» التي صاغتها لذاتها في مراحلها الأولى، التي كان دورها يقتصر فيه على حشر الرأي العام المعارض في مساحة ترواح بين أطياف ليبرالية من «العلماني» إلى «الإسلامي»، فتبنت في مراحل متقدمة من عمرها إبان الحراكات الثورية العربية مشروع الإسلام السياسي بشكل خالص، وبالتلاوين المختلفة، من السلفي التكفيري إلى الإخوان المسلمين وأشباههم. 
لكن الجزيرة تعي تماماً أن هؤلاء كلهم هم أصحاب مضمون سياسي محدد وواحد، يفرض على الرأي العام مرحلة جديدة، هي: مرحلة حكم الإسلام السياسي من الناحية الأيديولوجية، وببرنامجه الليبرالي من حيث المضمون الذي يخدم مشروع الغرب في تفتيت المنطقة، تمييزاً له عن مشاريع إسلام سياسي أخرى كإيران أو حزب الله وأجزاء من المقاومة الفلسطينية. 
الخطف خلفاً
استندت الجزيرة أيضاً في هذه الفترة وبشكل مكثف عن السابق على إعادة الجزيرة قراءة التاريخ السياسي لأحداث المنطقة الكبرى كلها (على مبدأ الخطف خلفاً) على أساس تثبيت مظلومية الإسلام السياسي تاريخياً في المنطقة، وإدعاء مظلومية من الأنظمة العسكرية والغرب وفق منطقها. وعليه  كانت الأفلام الوثائقية التي عرضتها الجزيرة تثبت هذه الفكرة سواء تلك التي تناولت أداء «الثورات العربية»، أو تلك التي تناولت ممارسات الأنظمة ما قبل الثورات لعقود خلت، حيث كان الهدف من هذه المرحلة القطع نهائياً مع الوعي الجمعي السابق ليسهل الذهاب للمرحلة اللاحقة التي أجهضت فعلياً بفعل الثورة المصرية الثانية.
وظيفة الردح!
بعد انفجار «ثورة» يوليو المصرية التي أطاحت عملياً بمشروع الإخوان المسملين أهم نواة في مشاريع «الإسلام السياسي»، انتهت فعلياً طموحات القناة في تسويق مشروع سياسي خاسر وآن لها أن تلعب دوراً إعلامياً آخراً يشق طريقه في وعي الناس على أنه الوعي السائد.
كانت عقلية القناة إبان هذه المرحلة عقلية الانتقام «للثورة المغدورة»، وعليه لم تعد القناة تقدم مضموناً سياسياً يخدم تسويق مشروع الإسلام السياسي، بمقدار ما يخدم ردات الأفعال الرعناء القائمة على تجييش صدور ما تبقى من أنصار هذا المشروع، وإن كلف ذلك حرقهم وإهدار طاقاتهم الإعلامية في الهباء. ربما من أبرز الصور التي تجسد هذه الفكرة هو برنامج الاتجاه المعاكس الذي بات مكاناً للسباب والشتائم والتحريض الرخيص الهيستيري، والذي لا يمكن لأي إعلامي عاقل أن يقبل به على قناته، فهل يعقل أن تجن القناة التي كانت تعمل على مشروع صياغة الرأي العام لإعادة إنتاجه وقولبته، وتصر على تقديم هذا البرنامج بهذا الشكل بعد أن ضربت الهيستيريا رأس مقدمه؟! بالطبع لا، لكن المرحلة تستدعي ذلك، فكيف؟!
ما بعد الجزيرة!
إن مرحلة تراجع المشروع السياسي الذي تبنته القناة، انعكس تراجعاً على المستوى الإعلامي، وعليه ينبغي تنظيم ذلك التراجع بقدر أقل من الخسائر. وهذه العملية لن تتم بسهولة، وعلى مستوى قناة الجزيرة وحسب، بل ينبغي رؤيتها في إطارها الكلي حيث سينظم أصحاب المشروع السياسي ذاته أدوات أخرى خدمة لهذه العملية.
فمع تراجع وانحسار دور الجزيرة من حيث تأثيرها في الرأي العام العربي، كان لا بد من بروز قنوات جديدة (راقبو قناة العربي الجديد) تعاود لملمة الجمهور الذي بات يرى في الجزيرة قناةً تحريضية لا أكثر، أو مكاناً لتفريغ شحنات المعارضات المتشددة. حيث يتصف خطاب هذه القنوات الجديدة بأنه أكثر جدية من الترهات التي تعرض على قناة (تردح) صباح مساء، والملاحظ أن هذه القنوات الجديدة شكلاً، تخضع من حيث الجوهر للسياسة الإعلامية السابقة ذاتها، أي تأطير الرأي المعارض، لكن مع فارق نوعي أن هذا الرأي المعارض بات محصوراً بفئات محددة واتجاهات سياسية محصورة لا تزال تؤمن بمشروع الجزيرة السابق.
من (الجزيرة) إلى (صفا)!
أما بالنسة للجزيرة فقد انتهى على ما يبدو دورها كطرف يعمل على صياغة الرأي العام المعارض، إلى جهة أوكل لها العمل على تجييش الفئات الأكثر تهميشاً ليؤطر وعي هؤلاء في خانة  العقلية الانتقامية الأكثر تشدداً، على شاكلة قناة (صفا) سابقاً، حيث يسهل مناغشة شرائح الناس الأكثر بساطة بخطاب مباشر سطحي تهييجي وتعبوي، يعمل على دفع الناس البسطاء لردات أفعال عنيفة، إلا أنها تصب في مصلحة تنظيم تراجع المشروع السياسي.
لم تكن صدفة أن ينتقل «الأمير» أبو محمد الجولاني خلال أشهر من رتبته تلك إلى «قائد» وحسب، فحينها وإن كان المشروع يلفظ أنفاسه إقليمياً، إلا أن أملاً بسيطاً بالاستمرار في الساحة السورية ظل موجوداً، وجعل من خطاب الجزيرة الإعلامي يتبنى هذه المسميات دون أي شعور باللغط. 
أما اليوم فقد أنهى التدخل الروسي آمال هذا المشروع سياسياً وإعلامياً، ووضعه على محك «دعم الإرهاب»، وعليه فلا بد من تغيير يجعل أبو محمد الجولاني قائداً لمعارضة معتدلة، لا أميراً لـ«إمارة إسلامية» كانت ممكنة الانتصار في ظل مشروع الدويلات الذي أراده الغرب في المنطقة، وما تبعه ذلك من سياسة إعلامية لأهم أجهزته الإعلامية في العقدين الأخيرين، قائمة على لململة التراجع.