«البطل - الضحية»..  الحكاية القديمة الجديدة

«البطل - الضحية».. الحكاية القديمة الجديدة

تختزن الذاكرة الشعبية الكثير من الأقاصيص والحكايا عن الأبطال. وللأبطال في تلك الذاكرة درجات؛ بدءاً من الشجاعة الفردية، وامتلاك سمات طبيعية أو جسمانية عالية، وصولاً إلى مفهوم البطل المؤثر في التاريخ، والذي مارس أفعالاً استمر تأثيرها عهوداً طويلة..

وأياً يكن حجم الأساطير المحيطة بكل شخصية من شخصيات التراث الشعبي، إلا أن تقييم الآثار التي خلفتها تلك الشخصيات يظل أمراً سهلاً في المراحل الزمنية التالية، لأن الأمور تقاس بنتائجها، فلا تقدر شخصيات كالزير سالم وعنترة، على سبيل المثال، والتي لا يزال ذكرها مستمراً حتى الآن في بعض الأوساط الشعبية، أن تتجاوز كثيراً حدود التشويق المرتبط بشجاعة الرجلين في الغزوات والمعارك التي عاصراها، إضافة إلى الشعر والأدب المتصل بذلك.

كما يحدث كثيراً أن يصبح ذلك التشويق هو الغاية النهائية ويأتي ذكر تلك الشخصيات كمادة دسمة في بناء ذلك التشويق، ويجري إضافة بعض المبالغات لزيادة الإمتاع في الحديث عنهما. ولكن، ومن ناحية أخرى، يحجز الأبطال مكانهم في تراث المجتمعات من زاوية الحالة الإشكالية التي صنعوها في مجتمعاتهم، واستمرار التناقضات التي أفضت إلى ظهورهم. وفي هذه الحالة تغدو العلاقة بين الناس والبطل أكثر عمقاً، حيث يتخذ البطل هنا دور «الرمز» الذي ينطوي على تجربة اجتماعية محددة، وصورة فوتوغرافية عن لحظة تاريخية محددة بما فيها من تعقيدات وإشكالات.


النموذج الأكثر شهرة

أحد أكثر النماذج شهرة في المجتمع السوري من هذا النمط هي شخصية «أبو علي- الشاهين»، وهو أحد الثائرين على الإقطاع من قرية سيغاتا التابعة لمصياف، في مرحلة ما بعد الاستقلال، قام بقتل عدد من الدرك بعد تعرضه للإهانة والضرب من إقطاعي المنطقة وحاشيته، وفر بعد ذلك إلى الجبال، ليخوض معارك طويلة مع الدرك قتل خلالها العشرات منهم.
وتوجد على الأقل ثلاثة أعمال أدبية وفنية وثقت هذه الحالة في التراث السوري، رواية لحيدر حيدر عنوانها «الفهد» وفيلماً سينمائياً أستند إلى الرواية، ومسرحية لممدوح عدوان عنوانها «المخاض»، بالإضافة إلى الروايات الشعبية الكثيرة عن الرجل، والأغاني الشعبية التي تشيد ببطولته الخارقة.
هذه الشخصية كان لها حظاً واسعاً من الشهرة بسبب الأعمال التي وثقت حالته، إلا أن المفارقة هي أن كل منطقة من الريف السوري إجمالاً تكاد لا تخلو من النموذج ذاته؛ تروي الحكايا الشعبية عن العشرات من المتمردين على الدرك الذي مثّل في تلك المرحلة جهاز الحماية للملكية الإقطاعية في سورية. أما شخصية أبو علي- شاهين فقد تهيأ لها من نفض عنها غبار التبسيط والتهويل والتكرار والملل الذي قد نجده في الروايات الشعبية، وتحولت إلى مادة أدبية وفنية دسمة في الأعمال المذكورة.


الدوران في حلقة مفرغة!

يقدم ممدوح عدوان لمسرحية «المخاض» بالقول: «المسرحية بلا شخصيات... الغيظ والقتل والإرهاق والاحتجاج والبكاء والدوران في حلقة مفرغة أولئك هم أبطال المسرحية الحقيقيون». وهو بالفعل يجعل من مسرحيته كذلك، فلا يوجد أي ظهور لأبي علي، ولا لأي أسماء أخرى، ما يظهر فقط هو الواقع وحده، الواقع بما فيه من ظلم طبقي واجتماعي ومفارقات مأساوية، مجسداً بالشخصيات التي تحدث عنها عدوان.
لم يكن الأمر الأساسي بالنسبة لكاتب المسرحية أن يمجد بطولات أبي علي أو يوثقها، بل كان يريد إظهار واقع يبلغ فيه الظلم حدوداً كبيرة، وتضيق فيه الخيارات حتى تتجسد في ردود أفعال يائسة. وحين يورد عدوان بعضاً من الغناء الشعبي عن أبي علي كـ«يا بو علي يا شاهين يا الرابط على الكروسي... قتلت درك مصياف لسا درك طرطوسي»، إنما هو يعكس صورة الرجل في وعي الناس، وبدايات تبلورها في أذهانهم كصورة لبطل.
لكن الحدث لدى عدوان أشار أيضاً إلى عجز ذلك البطل، وإنزلاقه مرغماً منزلقات معادية لقضيته ذاتها، يظهر ذلك عندما يحول الكاتب الأنظار باتجاه أحد شباب القرية الذي وظفه الإقطاعي بالدرك مقابل كل ما تملك عائلته، ليرديه أبو علي قتيلاً في سياق صراعه مع الدرك، مظهراً أن الصراع بين الفلاح والدركي لم يكن إلا تبادلاً لدوري الضحية والجلاد فيما بينهما، مع أن الصراع فعلياً كان بين أبو علي وعدوه الحقيقي، الإقطاعي القابع في بيته!
 كذلك، يفعل حيدر حيدر في روايته «الفهد»، حينما يرفض أبو علي قدوم الفلاحين لقتال الدرك معه لانعدام جدوى ذلك، وحينما يصر بعض الفلاحين على مشاركته، لا يلبثوا طويلاً حتى يعودوا إلى منازلهم، بسبب انسداد الأفق أمامهم فيما يفعلون، مظهراً عجز الأداة التي اتخذها هؤلاء في صراعهم مع الإقطاع، نتيجة لغياب كل شيء باستثناء الشجاعة والبطولة الفردية، غياب الخطة والطريق والقيادة بمعناها العميق، وبوصفها درجة عالية من التحكم في سير الأمور والأحداث.

ثوار بلا أسلحة!

لقد كان شاهين والأبطال الشعبيون الكثر الذين سلكوا المسلك ذاته تقريباً ثواراً قاتلوا بلا أسلحة، هم في الذاكرة الشعبية والأدبية ليسوا أبطالاً كعنترة والزير، بل هم نماذج تختزن الكثير من الدلالات الاجتماعية، والشجاعة الفردية إحداها بلا شك، ولكن أيضاً هم رموز للانتفاضة في وجه الظلم وتعبير عن رد فعل موضوعي لا بد وأن يظهر بشكل أو بآخر في الواقع الذي عاشوه.  ومن زاوية أخرى هم أيضاً تكثيف لحالة اليأس والعجز وانسداد الأفق نتيجة لغياب المقومات التي ينبغي أن ترافق الشجاعة الفردية، وأبرزها المقدرة على وعي الظروف واجتراح سبل النضال الصحيحة، والتي قد يكون أحدها حمل السلاح في ظروف محددة، ولكن تحت راية العقل وباتجاه البوصلة التي يشير إليها.
إن قراءة تجارب الصراع بين الأبطال الشعبيين والظالمين من حيث النتائج، وعلى اختلاف العهود، تشير إلى أن الظالمين كانوا على طول الخط يعملون على أن تظل البطولة في حدودها الفردية والبسيطة. هذه العملية أصبحت اليوم في أعلى مستوياتها، وبدأت تتخذ طابعاً شاملاً يشمل المجتمعات بأسرها، وأكبر مثال عليها هو الجهد الذي بذل على مدى السنوات الماضية لمنع الحركة الشعبية التي بدأت في الظهور في بقاع متعددة من العالم من تنظيم نفسها، وإيهامها بأنها إذا تنظّمت وامتلكت شعارها فإنها ستفقد طابعها الشعبي والنضالي، وبأن بقاءها هائجة وفوضوية هو الذي يضفي عليها الطابع البطولي. وفي العمق فإن كل ذلك يهدف إلى تجريد تلك الحركة من أسلحتها، وإبقائها في موقع «البطل- الضحية»، تماماً كما حدث مع أبو علي شاهين.