العلاقات الأوربية-العربية/ الأمريكية.. الموقف الألماني من العراق نموذجاً..

بعد أن تمخضت نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية عن فوز يمكن وصفه بالهزيل لصالح حزب المستشار الألماني غيرهارد شرويدر وتحالفه مع حزب الخضر بزعامة وزير الخارجية يوشكا فيشر، مع ما رافق الحملة الانتخابية الألمانية من مواقف متباينة مع واشنطن بخصوص رفض الحرب الأمريكية المبيتة ضد العراق، يبرز السؤال: إلى أي حد يمكن المراهنة على أن يكون الائتلاف الفائز في ألمانيا عربياً أكثر من الأنظمة العربية في محاولته ردع العدوان الذي تؤكد كل المعطيات أن قيامه بات مسألة وقت لا أكثر ؟

وبطبيعة الحال فإن محاولة الإجابة على هذا السؤال تبدأ من واقع التجاذبات والتناقضات التي حكمت العلاقات الألمانية-الأمريكية ولاسيما على امتداد العقد الماضي وما سبقه بقليل..

على الرغم من أن موقف شرويدر البارز في مناهضته لخطط واشنطن يمكن رده إلى بند الدعاية الانتخابية ومغرياتها الداخلية (والتي يصعب، دون أن يستحيل في الذرائعية السياسية، التنصل منها لاحقاً) فإن هذه المناهضة تعود في جذورها إلى التوق الألماني منذ انتهاء ما سمي بحقبة الحرب الباردة للخروج من تحت العباءة الأمريكية، ولاسيما بعد التغيرات العاصفة التي جرت في العالم إثر تفكيك منظومة الدول الاشتراكية والاتحاد السوفييتي والتي كان أحد أبرز تجلياتها انهيار جدار برلين وقيام ألمانيا موحدة قسرياً أسهمت بدورها في تنامي النزعة الإمبريالية لدى بون آنذاك استناداً إلى اتساع الرقعة الجغرافية والقوة الاقتصادية التي وضعت ألمانيا في المرتبة الاقتصادية الثالثة عالمياً.

غير أن الطموح الألماني بعد اندحار ما كان يسمى بالخطر الأحمر، وشأنه شأن طموحات المجموعة الأوربية التي تحولت لاحقاً إلى صيغة اتحادية شملت الوحدة النقدية مؤخراً، قوبل على الدوام بضغوط ابتزاز تنافسي أمريكي عمل على كبح هذا الطموح، وكان من أبرز تجليات ذلك تفجر الصراع العرقي-الديني اليوغسلافي وما تخلله من حروب أمريكية أطلسية كانت تعبر في مضمونها عن صراع إمبريالي ألماني-أمريكي ولكن على أراضي دولة ثالثة.

وتتوالى التناقضات، غير التناحرية، بين أوربا وواشنطن على قاعدة محاولة كل من الطرفين الاستئثار بالنصيب الأكبر من المكاسب والغنائم في العالم، وامتد ذلك على سبيل المثال لا الحصر من الإجهاز الأمريكي على أي نفوذ أوربي فاعل ومتبق في منطقة الخليج العربي بعد حرب الخليج الثانية، إلى الصراع على عقود النفط الإيراني وتبديل واشنطن لاستراتيجياتها في أثناء ذلك من احتواء مزدوج لكل من العراق وإيران إلى احتواء متمايز حاول في حقبة كلينتون الانفتاح على طهران، إلى التنافس على التركة السوفييتية وعقد الاتفاقات مع روسيا وحتى مع الصين، إلى الموقف من القوة الدفاعية الأوربية المستقلة عن حلف الأطلسي بقيادته الأمريكية، إلى التدخل العسكري في دول أفريقيا التي تعد منطقة نفوذ تقليدية للمستعمر الأوربي السابق، مروراً بالتباين الظاهري في الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، واعتماد أوربا عموماً موقفاً أقل انحيازاً من تواطؤ واشنطن في عدوانية تل أبيب المتنامية، وسبق أن تجلى ذلك في الاختلاف النسبي بين معطيات المشروع الشرق أوسطي، الأمريكي-الإسرائيلي، ومشروع الشراكة الأوربية المتوسطية الذي تدخل فيه إسرائيل ولكن بغياب الداعم الأمريكي المطلق لها، وهو ما دفع بالأطراف العربية إلى دخوله على مبدأ «أهون الشرين» في محاولة الانفتاح على العالم في معطياته الجديدة مع اللعب على حبل التناقضات الأورو-أمريكية…

وإذا كانت التباينات غير التناحرية في المسائل الدولية رغم مساسها بمصالح أوربا المباشرة في العالم لا تفسد للود قضية في مواثيق التحالف الأمريكي الأوربي، فإن التناقضات مع واشنطن بخصوص المسائل الداخلية المتعلقة بالمصالح الاقتصادية والمعيشية للقواعد الجماهيرية  الانتخابية للنخب الأوربية الحاكمة ولاسيما في البلدان التي تحكمها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية، يمكن أن تتطور إلى صراع مكشوف يحفظ ماء وجه هذه النخب أمام قواعدها على الأقل، والمثال على ذلك حروب اللحوم والمنتجات الزراعية والأغذية المعدلة وراثياً والحديد والصلب والتعويض الذي انتزعه الاتحاد الأوربي بما يتجاوز أربعة مليارات دولار من واشنطن مؤخراً عبر منظمة التجارة العالمية احتجاجاً على المعايير الجمركية والتنافسية الأمريكية المزدوجة والمتناقضة مع أبسط قواعد التجارة الحرة التي يروج لها البيت الأبيض…

وفي خضم هذه المعادلة الدقيقة من صياغة شكل وآليات الصراعات التناحرية وغير التناحرية بين واشنطن وأوربا، دون أن تعمد هذه الأخيرة إلى استفزاز واشنطن كما هي الحال في منافسة اليورو الصاعد للدولار المأزوم، يبدو أن ألمانيا وأوربا عموماً، باستثناء لندن بالطبع، وجدت في انعدام المسوغات وراء شن حرب أنغلو-أمريكية جديدة ضد العراق فرصة لتعكير صفو محاولة واشنطن، المستفيدة من ذريعة أحداث أيلول، التفرد أكثر فأكثر بمصائر العالم، مع قابليتها المتنامية لتهميش أدوار أقرب حلفائها حتى داخل حلف الأطلسي كما جرى في آخر اجتماع للحلف في وارسو البولندية، تماماً كما شكلت فرصة أخرى في محاولة ألمانيا الدقيقة أيضاً تأكيد مكانتها الإقليمية والدولية المفترضة…

وإذا كان شرويدر يعلن معارضته الصريحة للخطط العسكرية الأمريكية ضد العراق فإنه هو أيضاً سرب أنباءً تقول إنه سيطلب من وزيرة العدل الألمانية هيرتا دويبلر غيملين الاستقالة من حكومته إثر تصريحات أدلت بها وشبهت بها أساليب الرئيس الأمريكي جورج بوش باختلاق الذرائع بأساليب النازي أدولف هتلر، مفجرة قضية هيمنت على أجواء الانتخابات الألمانية، مع ما وصف أمريكياً على لسان مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد بتسميم العلاقات بين البلدين والتي بات ينبغي على المستشار الألماني شرويدر وحكومته فعل الكثير من أجل تحسينها بحسب مسؤول أمريكي آخر.

ولكن تأكيداً على أن هذه المواقف والتصريحات لن تقصم ظهر البعير في كل الأحوال رأى وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أن العلاقات الأمريكية الألمانية سوف تتعزز أكثر غداة فوز شرويدر، مؤكداً أن «ألمانيا من أقرب أصدقاء واشنطن»، في حين سارع شرويدر الفائز إلى زيارة لندن للتباحث في المسألة العراقية حيث يُعتقد أن زيارته تندرج في سياق مبادرة بريطانية لإصلاح ذات البين بين برلين وواشنطن وتليين مواقف الأولى، وذلك بعد ساعات من تقديم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لتقريره الحافل بالمزاعم الباطلة بخصوص خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتوصيف هذه المزاعم بالباطلة جاء على لسان منتقدي بلير في أوساط البرلمان والنقابات العمالية وحتى لدى بعض أطراف حكومته البريطانية ذاتها…

وعود على بدء، فبين التصعيد الأنغلو أمريكي المتسارع ضد العراق، المترافق مع تناقض ظاهر في التصريحات الروسية بهذا الخصوص، وإمساك أوربي وصيني للعصا من المنتصف، يبدو أن العراق دخل حرباً ضد الزمن ترقباً لحرب أمريكية جديدة تشن عليه، وسيكون ضحيتها الوحيدة عملياً الشعب العراقي الرازح أساساً تحت سندان النظام الحاكم ومطرقة الحصار الأمريكي الجائر، ويوازي ذلك معارضة رسمية عربية لا ترتقي إلى مستوى التحديات التي يطرحها أمام المنطقة العربية كل من التحريض الإسرائيلي على شن العدوان على العراق وانتقال سيناريو هذا العدوان إلى حيز التنفيذ من خلال التحركات العسكرية الأمريكية في المنطقة وباتجاهها…

 

وفي نهاية المطاف، وإذا كانت هذه المعارضة الخطابية العربية لا تستخدم كل أسلحتها الاقتصادية والدبلوماسية على الأقل في محاولتها ردع العدوان المرتقب مع ما يتضمنه من انعكاسات أمنية وجيوسياسية واقتصادية على المنطقة برمتها، ربما كان من الظلم مطالبة شرويدر بأن يكون عربياً أكثر من العرب…