الأزمة الكردية - التركية والأصابع الأمريكية

لكي تحمي النموذج الناجح لتقسيم العراق على أسس عرقية وطائفية، المتمثل في «واحة الأمن والأمان» الكردية التي كانت واشنطن ترعاها منذ عام 1991 في كردستان العراقية، من اجتياح عسكري تركي يتهدده، وصلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى أنقرة يوم الجمعة الماضي لتسوق حلا «دبلوماسياً» يقوم على تقسيم الأكراد إلى «إرهابيين» تقف واشنطن إلى جانب أنقرة ضدهم و«غير إرهابيين» تطلب واشنطن من أنقرة الوقوف إلى جانبها في دعمهم.

لكن زيارة رايس لأنقرة ثم مشاركتها في اليوم التالي في اجتماع الدول المجاورة للعراق في إستانبول، الذي حضره أيضا أمين عام الأمم المتحدة بان كي-مون، إنما تسلط الأضواء أولا على الدور الأميركي في تفجير الأزمة الكردية التركية الراهنة وثانيا على مدى الأهمية التي توليها واشنطن لنزع فتيل هذه الأزمة التي تهدد ركنا أساسيا في مشروع الاحتلال الأميركي للعراق.

وفي معمعة الحرب الكلامية الدائرة حاليا بين الأتراك والأكراد ووسط لعلعة الرصاصات الأولى في القتال بين الطرفين تكاد تضيع حقيقة أن الصاعق الذي فجر الأزمة الراهنة كان أميركيا، ويغيب عن طرفي الأزمة أن العامل الأميركي، الذي يحرص على بقاء الأضواء بعيدة عنه، هو الغائب الحاضر في هذه الأزمة.

لقد اجتمعت دول الجوار العراقي في استانبول في الثاني من الشهر الجاري لتغرق في تفاصيل الأزمة الكردية التركية بينما كان ينبغي أن يكون على جدول أعمالها بند واحد فقط هو مسؤولية القوة الأميركية المحتلة للعراق عن الفوضى الإقليمية غير الخلاقة التي أعقبت احتلالها للجار العربي نتيجة لتحول الولايات المتحدة إلى أكبر دولة داعمة للإرهاب داخل العراق في العالم.

هل هناك مبالغة؟

لنلجأ إذن إلى تفصيل موجز للمنظمات التي تمارس الإرهاب تحت مظلة الاحتلال الأميركي في العراق. فقد استدرجت واشنطن إلى داخل العراق منظمة القاعدة التي يصنفها القانون الأميركي نفسه بأنها إرهابية، كي تتخذ منها قميص عثمان يسوغ للإدارة الأميركية أمام شعبها المعارض للحرب على العراق استمرار إبقاء قواتها فيه من ناحية ولكي تشوه صورة المقاومة الوطنية العراقية بالخلط المدروس بينها وبين القاعدة من ناحية أخرى.

كما احتضنت واشنطن منظمات يصنفها القانون الأميركي أيضا بأنها إرهابية لكنها كانت موجودة قبل الاحتلال إما بحكم الأمر الواقع مثل حزب العمال الكردستاني (بي كيه كيه) التركي أو بموافقة رسمية مثل منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، بهدف استخدامها لهذا الغرض أو ذاك ضد الجوار العراقي.

وحولت واشنطن احتلالها العسكري إلى حاضنة لمنظمات طائفية تكاثرت كالفطر في البيئة الأميركية المواتية لكي تمارس الإرهاب والتطهير المذهبي، لكن بدل أن تدرجها الإدارة الأميركية في قائمتها للجماعات الإرهابية، كافأت قياداتها السياسية بتسليمها مقاليد الحكم المحمي بقوات احتلالها في المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية.

ثم أنشأت واشنطن منظمات إرهابية للعمل ضد إيران مستغلة العامل القومي داخل العراق لدى الأكراد والعرب على حد سواء ومستغلة أيضا العامل ذاته في أوساط العرب والأكراد الإيرانيين إضافة إلى مالدى هؤلاء من تظلمات ومآخذ على النظام الإيراني، وهكذا لجأت واشنطن إلى خلط الأوراق في أوساطهم لتشوه كذلك نضالهم من أجل إزالة هذه التظلمات ، فبات المراقب يسمع عن عمليات إرهابية داخل إيران تنسب إلى حركات وطنية أصيلة بين عرب إيران وأكرادها.

إن واشنطن- التي تثقف مواطنيها لكي يفخروا بـ«بوتقة الصهر» الأميركية التي تذيب الفوارق بين شتات القوميات والجنسيات والأعراق واللغات للمهاجرين إليها من أصقاع الكرة الأرضية الأربع – قد سعت عامدة متعمدة إلى تدمير المصهر العربي الإسلامي الذي كان يوحد العراقيين، الذين لم يهاجروا إلى العراق بل كانوا أهله الأصلاء طيلة آلاف من السنين، عربا وكردا، شيعة وسنة، مسيحيين ومسلمين، علمانيين ومتدينين.

ولأن المصهر العربي الإسلامي الموحد للعراقيين كان الهوية الأعرق والأقدم من أي نظام سياسي أو حاكم في بغداد، لم يجد الغزو فالاحتلال الأميركي مناصاً من تدمير الدولة العراقية وتفتيتها إلى دول «فدرالية» أم غير فدرالية لا فرق، تمهيدا لتفتيت كل منها إلى أقليات قومية أو دينية أو طائفية تتنازع على النفوذ والثروات وتستقوي على بعضها البعض بطلب الدعم الأجنبي الطامع فيها جميعا، لأن هذه هي البيئة السياسية الوحيدة التي تتيح لأي قوة أجنبية غازية أو محتلة ممارسة سياسة «فرق تسد» لضمان استمرار وجودها، ولأن الوحدة الوطنية هي النقيض الأكيد لأي وجود كهذا.

وكان «الخيار الكردي» هو المدخل الأميركي الأسهل، ومنذ فرض سلاح الجو الأميركي منطقتي الحظر الجوي في شمال العراق وجنوبه عام 1991 زرعت واشنطن بذرة الأزمة، بل الأزمات، ليس بين كردستان العراق وبين تركيا فقط بل بين أكراد العراق وبين مواطنيهم العراقيين الآخرين أولا، ثم بينهم وبين جيرانهم الآخرين في إيران وسورية، البلدين اللذين كان كرد العراق يجدون فيهما ملجأ ومنهما دعما طوال نزاعهم مع السلطة المركزية في بغداد، بغض النظر عن النظام الحاكم في العاصمة العراقية.

لقد وقعت القيادات الكردية العراقية في الفخ الأميركي الذي داعب الطموحات القومية للأكراد لأسباب تكتيكية لا علاقة لها بهذه الطموحات، واهمة في قدرتها على استغلال «الورقة الأميركية». وطالما لعبت القوى الإقليمية بهذه الورقة في صراعاتها ومنازعاتها لفترة طويلة كان ينبغي أن تكون كافية لكي تتعلم القيادات الكردية بعامة والكردية العراقية بخاصة الدرس لكي لاتزج شعبها مرة أخرى في أتون هذه الصراعات والمنازعات...

....إن الغازي الأميركي الذي يسعى إلى تقسيم العراق من أجل ضمان بقائه فيه لن يتردد في تقسيم الأكراد للهدف ذاته. فها هي رايس تفرق بينهم فتصنف بعضهم إرهابيين يمثلون «عدوا مشتركا» لبلادها وتركيا كما قالت في أنقرة و«غير إرهابيين»، ومما لاشك فيه أن الرئيس الكردي للعراق جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني لا يتفقان معها في هذا التصنيف لأنهم إن فعلوا سيكون كمن يطلق النار على قدميه. إن رايس تحاصرهما بين الموافقة على تصنيفها وبالتالي فقدان مصداقيتهما «القومية» أمام أبناء جلدتهما وبين الوقوف مع الوحدة «القومية» للأكراد وبالتالي مواجهة القرار التركي بالحسم العسكري للأزمة، وفي الحالتين الخاسر الوحيد الرئيسي هم الأكراد العراقيون...

■ نقولا ناصر - كاتب عربي من فلسطين