بصدد انتفاضة الشعب التونسي الباسلة

بصدد انتفاضة الشعب التونسي الباسلة

انتفض شعب تونس، وتمكن من الصمود أمام آلة القمع الحكومية. تساقط الشهداء، وسالت الدماء، إلى أن هرب الطاغية. هذا هو ثمن الحرية التي لا تأتي بالتوسلات والتشكي.

أعطى شعب تونس نموذجاً عملياً لكيفية مواجهة الطغاة، يستحق تحية اجلال وتقدير، وتضامناً صادقاً ومطلقاً.

كان أهم ما كشفت عنه الانتفاضة هو أن النخبة السياسية المعارضة كانت في غالبيتها جزءاً من النظام الحاكم، ومجرد ديكور لما يروج له الغرب الامبريالي تحت ما يسمى تعددية حزبية لا تمثل خطراً على النظام الاجتماعي. لذلك فقد تجاوزتها الجماهير، وظلت هذه الأحزاب في غيبوبتها حتى هروب الطاغية.

المخاطر على الانتفاضة:

أنجزت الانتفاضة خطوة شديدة الأهمية باقتلاع رأس النظام واجباره على الفرار. لكن الخطر الأعظم عليها يتمثل في أن النظام لا يزال قائماً. ومن ثم فإن الطبقة البرجوازية التابعة السائدة تعمل جاهدة على احتواء الانتفاضة والحيلولة دون استكمال مهامها الثورية. كما تعمل أحزاب المعارضة الهزلية للحصول على نصيب من الكعكة. حيث يروج كل هؤلاء لاصلاحات شكلية لا تغير النظام الاجتماعي الرأسمالي اللصوصي التابع. وكذا محاولات القوى الظلامية للقفز على السلطة والمحافظة على النظام الاجتماعي اكتفاء بمطالبة الأغنياء بمجرد «الإحسان» على الفقراء.

وأعلنت الولايات المتحدة وفرنسا احترامها لارادة الشعب التونسي. ورفضت فرنسا استقبال الرئيس الهارب على أراضيها جرياً على العادة الامبريالية تجاه العملاء الذين تعتصرهم ثم تلقي بهم في بالوعة القاذورات مثلما حدث مع «موبوتو» وشاه إيران، ولكن ذلك في اطار العمل على احتواء الانتفاضة وافراغها من مضمونها.

ويضاف إلى ذلك الخطر الذي تمثله النظم العربية التي تخشى امتداد هذا النهج الى بلدانها، خاصة بلدان الشمال الافريقي العربية التي تتماثل تماماً مع نظام الطاغية زين العابدين بن علي.

إن ركوب الموجة الثورية في تونس والعمل على احتوائها من أية قوى داخلية أو اقليمية أو خارجية تمثل أخطاراً داهمة على امكانيات تطويرها واستكمال المهام الثورية المتناسبة مع التضحيات المبذولة والأوضاع المتردية التي أدت الى انفجارها.

دروس الانتفاضة ودلالاتها:

أثبتت الانتفاضة أنه في حالة بلداننا العربية، لا يفضي العمل من خلال آليات ومؤسسات هذه النظم التابعة سوى الى العدم. ذلك أن هذه النظم عصية على أي اصلاح من داخلها. ولأنها قادرة على ترويض القوى التي تنخرط فيها، حيث تنحدر حثيثاً إلى مواقف الإصلاحية والاندماج في النظام من موقع الضعف، ويتركز كل طموحها في مجرد المشاركة للحصول على قضمة من الكعكة.

وأثبتت أيضاً أن هذه النظم القائمة على اللصوصية والنهب الوحشي والتبعية المطلقة للامبريالية، توجه جهدها بالأساس لبناء قوى أمنية جرارة لحراستها، حيث تصاغ هذه القوى الأمنية بما يجعلها بالغة الشراسة في مواجهة الشعوب التي لا تكترث هذه النظم  بأمنها مطلقاً. بل يتم تكريس قوات الأمن لمواجهة أي تحرك جماهيري. في حين تعمل على تقليص الجيوش حيث لا تعير أي أهمية لحماية الأمن الوطني.

إن الطبقات المهيمنة لا تستسلم بسهولة، وإنما تخوض معركة البقاء حتى النهاية باستخدام كل الأساليب، ولا تكتفي بقواتها الأمنية ولا تشعر بالاطمئنان الكامل لها. ولذلك فإنها تقيم ميليشياتها الخاصة. وقد كشفت الانتفاضة عن هذا الأمر حيث عمليات القتل والعنف والنهب والتخريب التي قامت بها هذا الميليشيات. كما كشفت عن ميليشيات مكونة من أجانب شاركت في المواجهات مع الجماهير، وهكذا تأكد على أرض تونس دور شركات الأمن التي قامت في البلدان الامبريالية خاصة الولايات المتحدة لتقوم بدور بديل لجيوش هذه البلدان في الخارج (شركة بلاك ووتر التي افتضح أمرها وأعادت توفيق أوضاعها)، وأن هذه القوات من المرتزقة تستأجرها النظم المستبدة التابعة لحمايتها واجهاض التحركات الشعبية المناهضة لها.

على عكس قوات الأمن الحكومية وميليشيات النظام وميليشيات المرتزقة الأجانب، فقد كان سلوك الجيش مختلفاً تماماً. لم يطلق الرصاص على الجماهير، بل استنجد به الناس لانقاذهم من هجمات قوات الأمن وميليشيات القتل والتخريب والسرقة. وبينما كانت قوات شرطة النظام وميليشياته تواجه الجماهير بالرصاص الحي وبأقصى درجات العنف فقد كانت المصافحات والعناق الحار بين الجماهير والجيش. وإن لذلك دلالاته.

وانكشف الخطأ والزيف الذي كانت تروج له النخب السياسية لتعفي نفسها من مسؤولية احجامها عن الانخراط في معارضة حقيقية بدعوى أن الجماهير لا تتحرك في معظم البلدان العربية، ولم يكن ذلك مجرد هروب من المسؤولية، ولكنه كان أيضاً زرعاً لليأس والإحباط.

الآفاق:

الانتفاضة الشعبية بهذا الحجم الهائل، وهذه القدرة الكبيرة على الصمود البطولي لشهر كامل في مواجهة القمع الوحشي، لاشك أنها تمتلك قيادة، وفي ظل الظروف القائمة لا أحد يضمن مدى قدرتها على النهوض بالاستحقاقات المفروضة التي قد تفوق طاقتها وامكانياتها سوى بتحصنها بالجماهير صاحبة الفعل الثوري، ونتمنى لها التوفيق في المرحلة المقبلة. وننوه إلى أن قوة الدفع التي ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها قد حققت مؤخراً العديد من المكاسب المتعلقة بالحقوق السياسية. لكن التحدي الأول هو تجاوز محاولات الاحتواء من قوى الداخل والخارج، والولوج إلى الاستحقاق الأساس، أي الأوضاع الاقتصادية– الاجتماعية، والوجهة التي ينبغي أن يأخذها تطور هذه الأوضاع.

كانت الانتفاضة بالتأكيد عملاً مبادراً وشجاعاً ونبيلاً حقق التخلص من الطاغية دون رجعة. وأسهمت في خلق وضع جديد في عالمنا العربي. وتحول انتحار الشاب التونسي الى نموذج يسري في العالم العربي مثلما حدث في الجزائر ومصر وموريتانيا. بل أحدثت هزة شديدة للنظم التي كانت تظن أنها باقية للأبد، كما أحدثت انتعاشا للشارع العربي وحركته.

إن صمود الانتفاضة وتطويرها ستكون له تداعياته التي من شأنها صعود حركة الشارع تفضي الى تراكمات كمية متسارعة لابد أن تفضي الى تغيرات نوعية في وقت ليس ببعيد.

لعل كلمات الرفيق ماو تسي تونج تعبر بشكل كبير عن الحالة: «رب شرارة أشعلت النار في السهل كله».

إبراهيم البدراوي - القاهرة