تهرب أم تعمية!
سمير علي سمير علي

تهرب أم تعمية!

طالعنا مدير مالية ريف دمشق، عبر إحدى الصحف المحلية مطلع شهر كانون الثاني 2018، بتصريح مفاده: «أن حجم التحقيقات والتحصيلات المالية التي نفذتها المديرية خلال العام الماضي تضاعفت مقارنة مع تحصيلات عام 2016 لتصل نسبة الزيادة إلى 100 بالمئة».

وقد سبقه إلى ذلك مدير مالية دمشق، وذلك منتصف شهر كانون أول 2017، بالكشف عن «زيادة في نسبة تحصيلات الضرائب في المحافظة بنحو 80 بالمئة منذ بداية العام 2017 وحتى شهر تشرين الثاني، مقارنة بالعام الماضي 2016، متوقعاً أن تزيد النسبة مع نهاية العام عن 100 بالمئة».
التهرب الضريبي عالمي!
مدراء المال في المحافظتين عزوا أحد أهم أسباب تحقيق نسبة الزيادة تلك إلى القانون 25 لعام 2017، والذي منح إعفاءات من الفوائد وغرامات التأخير، بالنسبة للمكلفين بالمناطق المتضررة، كما سمح بتجزئة وتقسيط قيم التكاليف إلى ثلاث سنوات ومنح براءة ذمة للمكلفين.
كما أن كليهما اقتصر حديثهما بالنسب المئوية، دون ذكر أية أرقام تفصيلية أو توضيحية، وخاصة عن أرقام التهرب الضريبي، أو المدورات الضريبية، التي قال عنها مدير مالية دمشق: أنها «لا تتعدى بضعة مليارات، وأن 80 بالمئة من المدورات الضريبية، هي ضرائب لجهات القطاع العام»، في المقابل فقد أكد بأن «التحقيقات الضريبية أقل بكثير من المطلوب بسبب التهرب الضريبي الذي وصفه بأنه عالمي».
اكتفاء مدراء المال بذكر نسب التحصيل الضريبي وتغييب الأرقام، ربما لا يقل أهمية عن وصف التهرب الضريبي بأنه عالمي، وبالتالي كأنّ هناك نوعاً من القبول به، أو بالحد الأدنى، كأنّ تبرير عالميته يجعل منه أكثر مشروعية على المستوى المحلي، ربما!
تقزيم المشكلة إلى «أخلاق»!
الملفت في حديث مدير مالية دمشق حول التهرب الضريبي قوله: «أن من يساهم في إضاعة حقوق الخزينة، هم بعض العاملين في الإدارة الضريبية»، متحدثاً عن «محاباة بعض المكلفين من بعض المراقبين»، وبأن: «الحدّ من التهرب الضريبي مرتبط بتبسيط النظام الضريبي، ووضوح النصوص التشريعية، وعدم ترك التكليف للتقديرات الشخصية ومزاجية المراقب، وذلك إضافة إلى زيادة كفاءة الإدارة الضريبية، إذ أن عدداً من العاملين في الإدارة الضريبية ليسوا على المستوى المهني والأخلاقي المطلوب».
الحديث أعلاه، فيه توضيح للرؤية الرسمية حول مشكلة التهرب الضريبي، وكأنها مقتصرة على الجانب الأخلاقي المرتبط بالمراقبين وتقديراتهم ومزاجيتهم ومحاباتهم للمكلفين، رغم عدم نفينا لها، وبأن ذلك يمكن أن يحل عبر تبسيط النظام الضريبي فقط!
نظام ضريبي محابٍ للكبار!
علماً بأن الهامش الأكبر من التهرب الضريبي، بمعنى ما يضيع عن خزينة الدولة من موارد، قائم عبر الكثير من التشريعات والقوانين والتعليمات والقرارات الرسمية، التي منحت وتمنح الكثير من الإعفاءات والمزايا وخاصة لكبار المكلفين، ناهيك عن أوجه وأشكال التهرب الضريبي الأخرى، ما يؤكد على أن من يحابي هؤلاء الكبار هي: الحكومات المتعاقبة ذاتها، التي صدرت تلك التشريعات وقوننت ضياع الكثير من الموارد للخزينة العامة، اعتباراً من قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1990، وليس انتهاءً بقانون التشاركية سيء الصيت، وما بينهما من قوانين وتشريعات أخرى، بما فيها ما يتعلق بالإعفاءات من الغرامات وغيرها التي تصدر بين الحين والآخر.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا: أن الجانب الأهم في أي نظام ضريبي هو: مقدار العدالة فيه بين صغار المكلفين وكبارهم، وكيفية انعكاس هذا النظام على مستوى الإنفاق العام ومستوى المعيشة والخدمات، الأمر غير المتوفر في النظام الضريبي المعمول به حالياً في ظل الاستمرار بمحاباة كبار المكلفين والاقتصاص من صغارهم، وخاصة أصحاب الدخل المحدود وصغار الكسبة، بالقوانين والأنظمة نفسها المعمول بها، بل وبمجمل السياسات الليبرالية المعتمدة والمتبعة منذ عقود.
فالإفقار المستمر لعموم المواطنين بات نتاجاً واضحاً لمجمل هذه السياسات، كما ظهرت واضحةً زيادة ثراء الكبار من حيتان المال والاستثمار والفساد عبر تكديس حصتهم الكبيرة من الأرباح، التي يعتبر التهرب الضريبي المشرعن أحد أسبابها، بل والسماح لهؤلاء بتصدير هذه الأرباح بالقطع الأجنبي للخارج.. هكذا.
والنتيجة، أن التهرب الجاري رسمياً هو التهرب من الاعتراف بهذه الحقيقة الفجة والتعمية عليها، وهو ما يجب أن يتم العمل على تسليط الضوء عليه وتعريته، من أجل تغيير مجمل السياسات الليبرالية التي أوصلتنا إلى هذا الواقع المجحف لعموم المواطنين معيشياً وخدمياً، بما فيها السياسات الضريبية، وكل ما عدا ذلك لن يكون إلا ذراً للرماد في العيون.